الثُّؤلول المُحْرج

نشرت في مجلة الدعوة السعودية العدد 1987
/28/صفر 1426 / 7/5/2005

كان النُّزول من عش الدََّلالِ ، ودفء الحِضن ، ونوم الضُّحى ،وقيادة الألعاب والتَّحكُّم بها أمراً صعـباً . إذ إنَّ فكرة التَّنازل بِحدِّ ذاتها كفيلةٌ برسم ملامح الكآبة على وجه سعود، فماذا بما سَيَتبَعُ التَّنازل ؟ إنَّـهُ القادِم الصَّعب الذي يُؤرِّق عيْنَيْه، ويحولُ مابينه وبين ابتساماته المعهُودة ونشاطه المتميز وأنْسِهِ المُحبَّب.
لم تَدَّخر أم سعود جهداً – وهي المعلمة الناجحة – في سبيل ترويضِ أفكار ولدها بمحاولةٍ جادة للتَّقريب فيما بين هذا المُدَلَّل وبين عالم المدرسة ، والمسؤولية ،والاستيقاظ المُبكِّر ، وكُنت أطمئنها بأنَّ اعتصامهَ بساريــةِ المدرسـة لن يدوم أكثر من أسبوعين ، لأن جذوةَ الفطرة السليمة لابد وأن تتّقد في ذاتـه وهو يرى زملاءَه يعيشون حيـاةً سعيدة _ على الرغم من حالتي التربُّص، والحذر اللتين تُكبِّلان انطلاقةَ أجنحتهم وتضعـان حدوداً لابتسامــاتهم المعهودة . ولا بُدَّ من أَنَّ فرح زملائه الواضح وهم يخرجون إلى الملعب وإلى غُرفة الحاسب الآلي سَيُقَرِّبُ الهوة بَعض الشيء ويجعل روح الزَّمالة ، وحبَّ اللعب تدفعانه شيئاً فشيئاً للانخراط مع المجموعة .
كانت غرفة الصفِّ – التي من المفترض أن يكون سعود أحد طُلاَّبها – مُقابِلَةً تماما لمَكتبي ، إذ كنت أراه مــن خلا ل النافذة الزُّجاجية ، وكلَّما مررت من قربه أقول مبتسماً : كيف حالك ........ ؟ ما أخبارك. ؟ متى قرَّرت الدخول إلى الصف؟ يقول: غداً .فأقول تمتع غداً وتَوَدَّع من حراسة الباب وادخل في اليوم الذي يليه.ما رأيك ؟ يقول ضاحكاً ؟ طيب .......
كان سعود يَمَلُّ من الوقوف الطَّويل، لكنَّــــه على الأقل أفضلُ مما يجري في داخـل القفص مـع الأرانب المذعورة.
فكان غير مرة يُخرج الكرة من غرفة التربية البدنيَّة ويلعب مـع الجدار لُعبة القاذف والردَّاد _ لقد أَلِـفَ سعود المدرسة فهو متفرِّغٌ بالكُلِّيَّة ، يعرفُ جميع المرافق التعليمية ، ومُختَبرَ العلوم ، ومكتب الوكيل ، والمدير، فهـو بمثابة الدليل الجغرافي لزملائِه – طبعاً خارج حدودِ الصف الأول الابتدائي الذي ينبغي أن يكون فيـه منذ أكثرَ مــن أسبوعين مضيا على بداية العام الدراسي...............
ذات مرَّة اقتربتُ من سعود المُعتصم، وفي اللحظة التي رآني فيها لَوَّن ببراعة فائقة ملامحَ وجهه وانتصاب قامتهِ فألوى برقبته، ووضع أصبعه في فمه، وأسنَدَ بكتفيه صاري الباب.سَلَّمتُ عليه، وَمَددْتُ يدي، وبسطت راحة كَفِّها تُجاه يـده لقد أخْجلني ولم يكتفِ بعدم الاستجابة ولكنه خبَّأ يده اليمنى خلْفَ ظهره. قلت في نفسي: هذا غريب جداً فالطلاب يسعدون جداً عندما يبتسم لهم مشرفُ المرحلة الأولية أو يوحي برضاه عنهم فماذا عن رفْضِ سعود......
في اليوم التَّالي ناديْته ، وأخرجتُ قطعة حلوى من الدُرج وقلت: افتح يدك ياسعود، ففتح يـده مستجيبـاً بعفوية الأطفال وبراءة ردود أفعالهم وإذا بيده قد امتلأت بأنواع الثَّآليل صغيرها وكبيرها . إن نظرة عيني المتأنية إلى يده لفتت نظره فأغلق قبضته على الحلوى وقد علت وجهه ملامح الخجل والإحراج.............
لقد انكشف السرُّ العظيم الذي يحرص سعود على عدم إظهاره لأحد ، في الفسحة الثانية ناديته وبعد ملاطفة قصيرة لانتزاع الابتسامة من شفتيه ولإشعاره بالأمان قلت: هل تعلم يا سعود أنني عندما كنت صغيراً كان في يدي بعض الثآليل ولكنها عادية و تلاشت من يدي عندما نجحت إلى الصف الثاني . أرِنيها ، لقد بَسطَ كَفَّهُ هذه المرة
بسرعة وكأن عُقداً كثيرة قد حُلَّت من نفسه . ومع بداية أول يوم من أيام الأسبوع الثالث دخل سعود إلى الصف
وكنت قد أخبرت معلمه بالأمر ليتوَخَّى الحيطة والحذر. وكان المعلم على خبرة كبيرة في التعامل مع طلاب الصف الأول وكان قد تجاوز الخمسين من عمره . وفي الحصة الثانية التي دخلها سعود طواعية قال المعلم في نهايتها: كل طالب يأتيني لأرى أظافره قبل أن يخرج إلى الفسحة.وعندما جاء دور سعود قال له المعلم: ماشاء الله عندك ثؤلول . والثؤلول لا ينبت إلا في الأيدي الطيبة والكريمة ، وأنا اليوم سأعطيك خمسة هدايا وسأرسم على دفترك خمسة نجوم. لقد سُرَّ سعود من تصريحات المعلم التي رسمت لوحة ربيعية زاهية في نفسه و كشفت الغُمَّة عن قلبه . وهو الآن في الصف الخامس الابتدائي من أكثر الطلاب حرصاً على الدراسة وعلى الالتزام بالدوام بالإضافة إلى حُسن أَدبه ودماثَة أخلاقه .






بقلم : بدرمحمد عيد الحسين
الرياض في 2/9/1421 هـ
badrhussain@hotmail.com








2 )