خَمْشُ الهِرَّة

نشرت في مجلة الأدب الإسلامي العدد 46/
1426هـ 2005 م

دخلتُ المدرسةَ في الصباحِ الباكرِ كعادتي، وبينما كنتُ مُتَوجّهاً نــحوَ مكتبي، إذا برَهطٍ مـن طلاب الصَّفِّ الأول يتدافعون، ويتسابقون، وقد ضاقَت صُدُورُهم ذَرعاً بأهَمِّ أخبارِ اليوم، تكلموا جميعاً في وقتٍ واحد، لم أفهم شَيئاً سوى كلمة" هِرَّة " بسببِ الجَلَبَةِ التي أحْدَثتها وكالات أنبائهم المضطربة.
وصلتُ إلى المكتب وهــم يشكِّلون دائرة حولي، بعضهم يكرِّرُ الخبر، وبعضهم الآخر يُقسم ويحلِفُ ظناً منه أنني لم أُصَدِّق ما يقول، وهم يظنُّون أَنَّني _ لا محالَةَ _ سَأتخِذُ إجراءً تأديبياً بِحَقِّ الهِرَّة الشَّكِسة التي نالَت من بَشَرة محمد البيضاء، المُشْرَبَة بالحمرة، وَرُبَّما أَمرتُ بإلقاء القَبض عليها، وحَبسها في المدرسة لِيَتمتَّعوا بَقِيَّة اليوم بِمنظَر الهِرَّة المُعاقَبة.
مع رنين جرسِ الاصطفاف الصَّباحي تَفَرَّقَ الرَّهطُ بالطريقة نفسها التي اجتمعوا بها. لم يَمضِ وقتٌ طويلٌ حـتى وَقعَت عيناي عليهِ، ياإلهي إنَّهُ يحُكُّ رأسه حكّاً شديداً، حتى لَيكادُ الدَّم يَتفَجَّرُ مـن عُروقِ رأسه ليجريَ علـى صفحات زَنديهِ اللَّذيْن ظهرا كأوراق شقائق النعمان.
ناديْتُ محمداً واصطحبتُهُ معي إلى المكتب. ما بك يا بُنَيَّ ؟ لماذا تَحُكُّ رأسك ؟ لقــد خمَشتني الهِرَّة ... نعم
الهرَّة يا أستاذ. وهل خمَشَت رأسك أيضاً....؟ نعم يا أستاذ هِرَّتُنا غَضوبٌ جداً.وَقد آذَت أَختي الصَّغيرة أَيضاً. قُلتُ: حمداً لله على سلامتك، اذهب إلى صَفِّــك، واحضُر إليَّ في الفسحة الأولى لأعطيَك علاجاً يخفف عنك الألم.قالَ:سَتعطيني مَرهماً اَم شَراباً ؟ شُكراً لك يا أستاذ فأنا عندي عِلاج في المنزل .استَغربتُ حقاً من وجود عِلاج يَشفي من خَمشِ القِطط. وعندمـا اتصلت بأبي محمدٍ وقــد حدَّثته عن هذا المَرض ، قاطعني قائلاً :" يا أستاذ ليس عندنا في المنزل هِرة ولا غيرها من الحيوانات،محمدٌ عنده فرطُ تَحسُّسٍ جلدي ، لقد كان يعاني هذا المرض مذ كان في سِنيْهِ الأولى .لكنـه في المساء كـان قلقاً من ردود أفعال زملائــه ومعلميه في الفصل على شِدَّةِ حَكّهِ الذي لا يملك له ردّاً ولا دفعاً، وقال: إنه يخاف أن يقولوا لـه :جربان..
من أجل ذلك قَرَّر محمد على عجلةٍ من أمره - وربما في الليلة التي لم تغمض عيناه فيها- أن يُكمل جميـع فصول المسرحية التي نسجَها بخيوط إحساســه المرهف، وخَيالِ طفولتِهِ البريئـة
ومع رنين جرس الفسحة الأولى حضر محمد فأجلسته وقلت له: يا بني أنت طالب مجد وذكي والطالب الذكي ينبغي أن يكون شجاعاً فكنت أتمنى منك أن تخبرني بالتحسس الجلدي الذي تعاني منه،وهذا ليس معيباً، فالتحسس شأنه شأن الزكام الذي أعاني منه أنا اليوم، ومع ذلك لا أتحرج منه. فنحن في المدرسة أشبه بالأسرة فينبغي أن نواجه مشكلاتنا بجرأة ووضوح،والصراحة مزية طيبة طيبة،فهل تعاهدني يابني على أن تكون صريحاً وواضحاً ؟ فقال: أعاهدك يا أستاذ.
خرج محمد وقد تأثر بسبب الرواية الموضوعة التي نقلها إلينا، ولكنه تزود بقيمة عظيمة من جراء هذا الموقف خبأها في نفسه ديدناً ومبدءاً، ورحم الله قائل المثل العربي" رب ضارة نافعة".


بقلم: بدر محمد عيد الحسين
الرياض 1421 هـ
badrhussain@hotmail.com