هجمة البعوض
عمر علوي

- " ليس هناك غيره ليخلّصني من المشكلة التي تعترض طريقي، هو الوحيد الذي يستطيع أن يبيّض وجهي و وجه المدينة: رجل خدوم،صديق للمظلومين، و مناصرهم .. و أنا ، بالنّظر إلى ما أنا فيه، مظلوم بكل الاعتبارات. أليست المشاكل المتهالكة عليّ، و في هذا الظّرف بالذّات، كافية دليلا؟ لا ، لن يخيّبني.. سأتّصل به فوراً.
-" رقم النّجدة.. رقم النّجدة.. أين هو في هذه السلسلة الطويلة من الأرقام؟ .. أين هو؟ ها هو.. وجدته.
-" ألو.. أين أنت يا صديقي ؟ من مدّة لم أسمع أخبارك، كنت أنتظر منك زيارة مفاجئة لتهنئتي على نجاحي في اعتلاء عرش المدينة، و يبدو أنّك ماسك عليّ تأخّري عن عدم دعوتك رسميّا ، لا تلمني، فقد نسيت، حتّى نفسي..، و لك أن تضحك عليّ،.. نسيتها يومها، و أنا في خضمّ ترتيب أموري لإرساء قواعد العرش.
- " و منذئذ، صدّقني، لم أعش يوما واحدا مثل النّاس،فوقتي كان كلّه موزّعا بين المكتب الذي تتكدّس فوقه أكوام من الملفّات التي تنتظر الإمضاء المستعجل، و بين الفنادق التي نعقد فيها صفقات الأعمال، أضف إلى ذلك، الاجتماعات الدوريّة و الاستثنائيّة، و استقبال وفود الرسميين، و غير ذلك ممّا يأكل الوقت بدون حساب.
- " تصوّر، حتّى عائلتي، قلّما استطعت أن أسرق بعض الوقت لزيارتها.. نعم، مجرّد زيارة فقط، مثلما نزور مريضا في المستشفى للحظات ثمّ نغادر. أمّا الأصدقاء،.. فلا أعلم ما حدث لي تحديدا ؟ لقد وجدت حولي عالما جديدا أبهرني و ألهاني عن عالمي السابق ، بل أدخلني في متاهات يصعب أن تعود فيها أدراجك.
" صدّقني، عندما يكون أحدنا في هذا المنصب الذي لا أتمنّاه لعدوّ و ما بالك بصديق، يشعر أنّه مختلف كلّ الاختلاف عن سائر البشر، يحسّ إحساسات لم تكن تخطر بباله من قبل، و يجد نفسه يعيش حياة تبتعد به يوما فيوما عن حياته القديمة، فيألفها و تألفه، و تتشابك الحبال و تتعقّد لتكوّن نسيجا متلاحما متماسكا، يصعب معها انفكاك الخيوط عن بعضها، ثمّ يتحوّل النسيج حجابا حاجزا بينه و بين الأحبّة من الأهل و الأصدقاء، إلاّ من احتواهم النسيج أو علقوا بحباله كالعناكب.
-" و الحقيقة أننا مساكين.. نحن. لقد ظلَمَنا الحاسدون الذين يقولون أننا نتقلّب في النعماء، و الأصحّ هو أننا نشقى فيها شقاوة الجحيم، و لكن ما باليد حيلة، ذلك قدرنا، و على النّاس أن يفهموا بأنّنا خلقنا لهذه الحياة كما خلقوا هم، لحياتهم تلك.
-" و بكلّ صراحة، أقول لك ، رغم كل شيء، فقد ألِفْتُ هذه الحياة التي وجدتها على مقاسي، بل هي مناسبة جدّا لطموحاتي الطويلة و العريضة، و ليس سرّا إن قلت لك أيضا بأنّ تعلّقي الشّديد بهذه الدّار الكبيرة، قد امتدّ إلى أثاث مكتبي الفسيح ذي الأرائك الوثيرة، و الجدران المبطّنة بعوازل الصوت، و إنّي أراه اليوم كالعاشق المتشبّث بتلابيب معشوقه الذي ينتظر توديعه عمّا قريب.
-" هل تتصوّر ذلك ؟ من الصّعب يا صديقي أن أنْفَطِم عن لذّة هذا الكرسي، أصاب بجنون ، لو فقدت ــ لا قدّر الله ــ هذه المملكة دفعة واحدة، ثمّ إنّ المواطنين أيضا سيخسرون كثيرا بذهابي، أليس الأفضل أن يعيدوا انتخابي حتّى أحقّق لهم أمنيتهم الكبيرة التي طالما انتظروها.. أن تصبح مدينتهم مدينة بأتمّ معنى الكلمة.. مدينة لا يخجلون من الانتساب إليها كما قال لي أحدهم يوما، و الحقّ يقال، أنّهم على صواب.. و هذه الحقيقة لم أدركها إلاّ اليوم ، لأنّني اليوم فقط، و منذ أكثر من أربع سنوات، أرى المدينة بعين المواطن العادي، و أقف على الحقيقة المرّة، و أدرك حجم الكارثة. "الناس هواة تهويل" كنت أقول عندما تَصِلُنِي شكاويهم المتردّدة على مكتبي الذي يشهد أنّني أقرأ بكثير من المتعة انشغالاتهم الكثيرة ، و لأنّها من الكثرة التي لا تعدّ و لا تحصى، كان من المستحيل النظر فيها، و هو أمر مفهوم ، بالنّظر إلى التزاماتنا المتعدّدة والمتشعّبة.
-" ألو.. هل أنت معي؟ لا تقفل الخطّ، أرجوك، أعرف أنّني مهذار مكثار، و لكن، أترجّاك أن تحمل ثقلي، لأنّني في أشدّ الحاجة إلى خدماتك الجليلة. أنا في ورطة، و المدينة في خطر.. و أنا لا أعلم ما أفعل. النفايات تحاصر المدينة و أنا هنا، سجين في هذا القصر لا حول لي و لا قوّة، و فيالق البعوض و الذّباب قد أعلنت حربا شعواء لا هوادة فيها.
-" ألو.. سوبرمان.. هذه جحافل البعوض مدجّجة بالسلاح الفتّاك، ألمحها من نافذة المكتب تتقدّم بكلّ حزم و ثبات نحو القصر.. ألو.. ألو.. الخطر يداهمني.. هذه قوافل أخرى من الذباب أراها تملأ الأفق هديرا.. لقد أظلمت الدنيا من حولي.. النّجدة.. النّجدة..من يخلّصني؟ هل من منقذ يا عالم؟ أين أنت يا منقذ المظلومين؟
كانت يدي على سمّاعة التلفون الرّابض بجانب سريري، عندما استفقت من النوم مذعورا، و سيول من العرق البارد تغرقني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ، و دعوت الله أن يجعل الكابوس خيرا. و بعد أن استرجعت هدوئي، و استتبّ الاطمئنان في نفسي، دخلت الحمّام لأغتسل ، فإذا المرآة تعكس وجها غير وجهي، من أثر لسعات البعوض الذي وجد طريقه للانتقام من جسمي الهزيل، و هو ما جعلني للحظة أشكّ في حقيقة شخصي، فحسبتني "المير" * فعلا.
و كان عليّ بعد ذلك أن ألتحق بعملي، غير أنّي فضّلت المكوث بالبيت، و أنا على ما أنا عليه من بشاعة المنظر. فتحت النافذة المطلّة على الشارع العامّ كي أشمّ قليلا من الهواء الجديد، علّه يكون اليوم منعشا، فإذا عيني تقع على رجل يعلّق على الجدار المقابل إعلانا إشهاريا مكتوب عليه بخطّ عربيّ بارز:"منتخَبون – بفتح الخاء- في خدمتكم "، قرأت الجملة مرّات و مرّات ثمّ قلت في نفسي:" بل منتخِبون – بكسر الخاء- في خدمتكم ".
و انطلق بعد ذلك خيالي يسبح و يسبح كالغريق يطفو حينا و يغوص أحيانا أخرى في بحر"لا أدري بالضبط"، إلى أن انتشلني صوت ربّة البيت من الغرق الوشيك، و هي تقول لي: " خذ معك الكيس الأسود و أنت خارج. " فقلت لها دون انتباه:- حاضر..سوبرمان.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي