قصة قصيرة معركة السوق


نامت المدينة في هذا اليوم الأخير من شهر رمضان على رياح هوجاء، و استفاقت على رذاذ متّصل في تلاحم أغرق الطرقات في أوحال لزجة مثيرة للأعصاب.لو كنت فلاحا لاستبشرت خيرا لقدوم الرياح و هطول الأمطار، و لكن أنا..كنت سأقول بأني حضري أسكن المدينة، فتذكرت بأن هذه العبارة لأحد النازحين من الريف، جاء إلى المدينة بعدما ورث ثروة والده المغترب، و استثمرها في تجارة"كل شيء"، و نمت ثروته بسرعة مذهلة ، ظهرت "أعراضها" في الدكانين الموزعة على أحياء المدينة، و في ما يسميه بالقصر المتعدد الطوابق الذي بناه على ربوة مفتوحة على الجهات الأربعة، قال تلك العبارة و هو يعني أن المدينة، إن لم تسكنها سكنتك، و البون شاسع بين أن تسكن المدينة فتكون حضريا قلبا و قالبا، و بين أن تسكنك المدينة فتعيش حياة طفيلية، لا هي بالحياة الحضرية و لا هي بالحياة الريفية، تعيش تحت سقف حضري و تفكر بعقلية ريفية، هي إذن حياة هجينة يستلزم معها أن تجد لها تسمية تعبر عن هذا النمط الجديد في العيش، و وجدتني أسأل نفسي:"هل أنا قرمديّ!؟ أي من القرية ـ المدينة.
دفعني باب الدار إلى الطريق العام فاستقبلتني حفرة مليئة بمياه قذرة، فحضرني قول لأحدهم يصف به شركات الأشغال عندنا بـ :" شركات الحفر و عدم الردم"، لأنه لم يسبق أن رأينا في المدينة أشغالا شرع فيها و أنهيت. و الحفر في مدينتنا معالم، فكل ساكن يعرف بيته بالحفرة التي يغرق فيها حذاؤه كل صباح، و لا تستغرب من الناس جوابهم إن سألتهم عن عنوان شخص فردوا عليك بقولهم:" بعد المنعرج حيث حفرة بجانب كومة من الأتربة..". و لأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فشركة اللماع أفلست لصالح شركة الأحذية المطاطية، فالناس صاروا في غير حاجة إلى تلميع أحذيتهم، و يرون أنه لا جدوى من تلميعها ما دام الوحل اللزج يحل محل اللمّاع، فكان أن غزت واجهات المحلات الأحذية المطاطية السوداء التي ترضى بالهوان.
و مع ذلك، انطلقت نحو السوق المفتوحة و أنا كلّي ثقة و حزم و عزم، فالصحة البدنية مطمئنة، و المال موفور، و الحمد لله، غير أن السوق ليس مسجدا ندخله باليمنى، فالسوق ندخلها باليسرى، نتحسس بها الأرضية الطينية، حتى إذا ما اطمأنت لصلابتها ، أوعزت لليمنى بالولوج. و السوق عندنا ..هي السوق..بضائع..خلائق و دعاية و أشياء أخرى. و في السوق لابدّ أن تتصرف كما في الحرب:"العب لعبك"، كما يقال، هذا قانونه المتعارف عليه. و في السوق كما في الحرب، الخدعة مشروعة، و في هذا المقام، فإن "طيوان" علّمتنا بأنّ كل ما يلمع ليس بالضرورة ذهبا، إلا أننا كثيرا ما نقع ضحايا لغفلتنا ، فندفع أموالنا في ما لم نكن ننوي شراءه قبل دخولنا إلى السوق، نجد أنفسنا مدفوعين إلى الإقبال على بضاعة تحلّق حولها خلق كبير، فنحكم بدون تفكير بأن الناس ما تجمعوا على هذه البضاعة إلا لكونها ذات جودة، و أن سعرها مقبول غير مبالغ في ارتفاعه، و يخفى علينا أن الأمر لا يعدو أن يكون خدعة يلجأ إليها البائع ، فيوهمنا بأن الحائمين حول سلعته زبائن، و هم في الحقيقة شركاؤه،. و الناس قلما يتفطنون لمثل هذه الحيل و الخدع لانصراف عقولهم و خمولها في مثل هذه الأيام الأواخر من رمضان.
لا أقول بأنني لست واعيا بهذه الأمور، و لكن وعيي كان في غياب و أنا في أشد الحرص أين تطأ قدمي في بحر من الأوحال اللزجة عند مدخل السوق، و الوعي كما لا يخفى، مهم في معركة السوق، و أنا دخلت منقوصا منه. وجدتني في مضيق ، المرور فيه بشق النفس، فقد كان همي متشبّثا بالضفة الأخرى حيث بعض الجفاف . بلغت الضفة الأخرى سالما، و لكن ليس دون أن تتعلق بحذائي كالعلك، طبقة سميكة ثقيلة من طين أصفر لزج، جعلت لساني يستعيذ بالله من هذه الحال و تلك الأوحال .
وقفت عند أول فاكهاني توسمت في وجهه ظرفا، و رأيت في سلعته جودة، و في سعرها اعتدالا، و عين الجائع، كما لا يخفى، تزيغ أحيانا، فترى الأشياء على غير صورتها الحقيقية، و قلت له:
- زن لي كيلو برتقالا من هذه.. و أنا أشير إلى صندوق تصطف فيه حبات البرتقال اللامعة بلونها الضارب إلى حمرة الشفق، و تطوعت يدي و امتدّت إلى برتقالة بدت لي أجمل و أشهى من غيرها في ذلك العدل، أخذتها بحنوّ لطيف، و ناولتها إياه فأمالت كفة الميزان، فأعادها البائع إلى مكانها في العدل بكل برود، و ساءني ما فعل فقلت له و أنا ممسك بالبرتقالة إياها:
- دعها مع المزون، و زد عليها كيلو آخر!
تهلل وجهي بفرحة الانتصار، فأوغلت يدي في جيبي لأخرج حزمة الأوراق المهدية، فلم تصادف سوى خواء مريع، و أخذت أفتش مرتبكا بيدي الاثنتين في جيوبي الكثيرة، الأمامية و الخلفية و الداخلية، فلم أعثر على شيء، ما عدا قطعا نحاسية لا تفي بالمطلوب.
أيقنت عندئذ أن معركة السوق خسرتها في المضيق، فهو المكان الملائم و الأفضل لنصب الكمائن، و هنالك نصب لي الكمين، لا شك في ذلك!
لاحظ البائع اضطرابي و حيرتي، و أدرك أني وقعت فريسة بين مخالب ذئاب السوق، فنظر إلي مبتسما، و أتبع ذلك بكلمة تنم عن طيبة مخزونة، ربما لمثل هذه المواقف المحرجة، و قال:
- "كاين" ربي! ثم أضاف و هو يناولني الكيس الأسود الذي ترقد فيه حبات البرتقال بكل أمان و طمأنينة:
- .. مخلوفة إن شاء الله! و أردفت و أنا أهز رأسي:
- إن شاء الله.. و نطق لساني بعد ذلك بالشكر و مضيت محملا بالهزيمة أبحث عن طريق العودة.




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي