الخالة عائشة

بدت لي و هي تقف أمامي، خلف المكتب، و برغم السنين و ثقلها التي أحنت ظهرها شيئا ما، محتفظة بنضارتها و ملامحها الصافية، التي عرفتها بها منذ مجيئها إلى قريتنا، أقول هذا ، لآنها ليست من قريتنا، و إنما حلّت علينا فجأة هكذا، ذات يوم من أيام الاستقلال الأولى، و الناس مازالوا يعيشون نشوة الحرية التي طالما انتظروها.
لا أذكر أن أحدا كان يعرف من هي، و لا من أين جاءت، أو ما هي وجهتها و مقصدها، و لا والدي الذي استضافها أياما في بيتنا، كان يعرف عنها شيئا، ما عدا اسمها الذي لم تبخل به علينا. و عندما أوحى لها بالرحيل تشبثت بأطراف برنوسه و هي تتوسل و تستعطف راجية أن تبقى معنا، و تعده بأن تكون خادمة مطيعة لا تعصي له أمرا، و هو ما جعلنا في العائلة نأتي من جهتها و نأخذ دفاعها إلى أن لان موقف أبي الذي احتار، لا يدري ما يفعله إزاء هذا الصندوق المغلق على سره، إذ كانت تتجنب استفساراتنا بأجوبة لا تعني شيئا، أو تكرر علينا عبارات مألوفة مثيرة للشفقة، عندما نلح عليها لتفتح لنا قلبها فتقول:" أنا ولية.. أنا مقطوعة..وحدانية.." و أصبحنا جميعا ، بعدما تعودنا على مزاجها، نسبقها في ترديد أقوالها بتهكم بريء يغرقنا في قهقهات بهيجة، و كانت تأخذها بنفس هادئة، و ملامح ساكنة لا تسفر عن أدنى تأثر بذلك، كأنما هي لوحة زيتية طبعتها سحنة واحدة ألوانها باهتة، لا تتحول بتحول الزمان و المكان، و هو ما كنا نعجب له، إذ كيف للإنسان أن يستقر كالجماد على صورة ثابتة لا يحركه فرح و لا حزن؟ شيء مدهش يكاد لا يصدق.

ظلت بيننا أياما أخرى، فرأى والدي الذي كان أمين القرية، أو إن شئت، كبيرها، أن يسكنها بيتا شاغرا هجره صاحبه غداة الاستقلال هاربا مع من هرب من الخونة و الحركة و القومية، الذين باعوا دينهم و خانوا وطنهم ، كما كان يقول والدي، هرب خوفا من بطش الانتقام. و منذئذ ، استقلت بهذا البيت لتدير شؤونها بنفسها. و كانت نشيطة جدا، من النادر رؤيتها قاعدة دون مشغلة. كانت تأتي في الصباح عند والدتي لتساعدها في الأعمال المنزلية الكثيرة، و بعد ذلك تملأ فراغها باستثمار مواهبها المتعددة. لها أصابع من ذهب، لعلها من أولئك النسوة اللواتي ينطبق عليهن قول العجائز في مدح العرائس، " كل أصبع بصنعة" ، بل هي واحدة منهن، فقد تعلمنا عنها، أنا و أختي، صناعة اللعب التي كنا نتسلى بها، و التي كنا نتباهى بها أمام أقراننا و نفاخر. و أذكر أن شهرتها تجاوزت حدود القرية بفضل مهارتها في صناعة السلال.فهي كالنملة، دائبة الحركة، حتى أننا كنا نتساءل أحيانا من أين تأتي بكل تلك الطاقة العجيبة؟ كنت أراها عند الظهيرة بعد ركون الناس إلى القيلولة، قادمة من ناحية الوادي و هي تحمل على جيدها حزمة من أعواد القصب الذي تعج به الوهاد، تجلس متربعة و تجرد الأعواد من أوراقها و تشقها شقتين متقاطعتين لتخرج منها أربع مساطر ، ثم تملّسها ، و لا تلبث تلك المساطر بين أصابعها الخفيفة السريعة، إلا دقائق ساعة أو أدنى، لتتشكل و تصبح سلة جاهزة للاستغلال. و كانت تبيع مصنوعاتها في السوق الأسبوعية التي تقام كل خميس في البيادر، و تشتري بثمنها ما تحتاج إليه من لوازم.
و مرت الأعوام، و الزمن هذا المعلوم المجهول الذي يخبئ في طياته مفاجآت تأتينا أحيانا صدمات قاسية، كان اليوم على موعد معي، تصدى لي كرجل حازم و قال:" اليوم امتحانك الذي يثبت جدارتك!"
و الموقف الذي أنا فيه الآن، فعلا امتحان حقيقي، امتحان لا يشبه ما عرفته سابقا من امتحانات ، امتحان لا يمكن أن أتخطاه بضربة قلم و ضمّة معلومات. فقد ألفيت ذلك الشاب النائب العام الذي صرته بعد سنوات من الدراسة، ألفيته أمام قضية شائكة يصعب لمشاعره مهما تحجرت، أن تكون محايدة مهما أوتي من نزاهة و التزام . كيف لا! و الماثل أمامي ليس سوى الخالة عائشة! الخالة عائشة التي انقطعت عني أخبارها بعد أن استقرت بي الحياة في المدينة. ما الذي أوصلها إلى مكتب النائب العام؟ ذلك ما سأشرحه فيما يلي، و أرجو أن تعينوني على تأسيس تهمة تناسب الحال!
قال لي أحد الشهود: " كل شيء بدأ عندما بلغ أهل القرية خبر عودة "أطروش" الخائن، و كان المشكل المحير الذي أقلق السكان هو: من يستقبله و كيف؟ الدولة فتحت باب التسامح لأبنائها الضالين، و لكن الناس لم يفتحوا قلوبهم، حتى و هم في صلاتهم، تجدهم يدعون لعودة المغتربين و الضالين إلى موطنهم سالمين غانمين، إلا أن الدعاء لعودة من خان وطنه و أهله و دينه، فهو أمر لا يخطر ببال أحد أبدا، ليس لكونه لا يدخل في عادات الدعاء عند الناس، بل لكونه أمرا صعب الهضم، فالخائن ..خائن، و لو كان وزنه ذهبا!ألم يبع "نيفه" و دينه، و صبغ وجهه بلون العار، و لم يترك شيئا يذكره به الوطن و أهليه!؟ فما الوجه الذي سيحمله معه ليقابل به الوطن الذي خانه؟ ثم بأي حق يعود؟ فجراح الحرب لم تندمل بعد، و الزمان يأبى أن يقاطع التاريخ، رغم مرور عشرات السنين على انتهاء الحرب، و الرياح التي تهب من الشمال يستحيل أن تمحو الندوب و الآثار التي ستبقى دائما، تذكرنا .. كلما تحسسنا الوطن، حتى و إن أرغمنا أنفسنا على التسامح، أو تجاهلنا لنعيش بقية العمر في وئام.. و لكنه سيظل دائما.. وئاما واهيا.
حبل التفكير في مد و جزر، لا يكاد يستقر على رأي، ذلك ما وجد الناس عليه أنفسهم، بينما الأمر عند الخالة عائشة، محسوم. وحدها.. كانت تستعد لاستقباله، كأنما كانت على علم بقدومه: جيرت ، كما استطاعت، جدران المنزل الذي كان يبدو معزولا حقيرا وسط منازل معصرنة بطوابق متشامخة تكاد شرفاتها تتعانق. استغرب الناس أمرها في الوهلة الأولى، غير أنهم سرعان ما انصرفوا لما يشغل بالهم أكثر، حينما يجدونه أمامهم، وجها لوجه، ماذا عساهم أن يقولوا، أو ماذا عساهم أن يفعلوا، أو كيف سيتصرفون؟ تلك هي المعضلة الكبرى، فالأمر ليس سهلا كما يتصوره بعض شبان القرية الذين لا يرون مانعا في أن تمتد أيديهم لهذا الغريب و هم يودون، بل هم في أشد الفضول لأن يكتشفوا الوجه الآخر لـ" أطروش " الذي لا يعرفونه في أحاديث آبائهم سوى بأخبث النعوت.
حالة "هشتكوكية" كانت تستولي على الناس، الوجوه كالكلاليب منطبقة، و النفوس منقبضة، يكاد يخذلها الصبر. كابوس خانق، أية نهاية له، و عما سيسفر؟ ما انفكت الأعين تتساءل!
و كانت النهاية ، نهاية لا منتظرة و لا متوقعة، فهل هي النهاية المأمولة التي لا تفصح عنها ألسنتهم؟ لا أعلم، و لكن الذي بدا واضحا و صارخا للعيان هو أنهم تحرروا من عقدتهم الكابسة على كيانهم منذ أيام، و صاروا يتكلمون فيما بينهم بلغة جديدة، هي مزيج من الحتمية و القدرية.
ماذا حدث؟ الذي حدث أن الخالة عائشة التي فكت قيود ماضيها الأسير في جوفها، تحدت بكل ثبات، ما انتظرته سنين، عدتها قصيرة و هي طويلة، بل لم تغادر زمنها الذي ظل وفيا لها، و لم ينس ذلك اليوم الذي سقطت فيه غدرا، أرواح بعض المسبلين بإحدى المداشر المحاذية لقريتنا، و هم يردون كالأسود، على ضربات الأعداء المتحرشة.
قالت له بثبات الجبال التي قدت منها:" عدت!..المجرم يعود دائما إلى مكان جريمته.. تأمل في ملامحي جيدا!.. أنا عائشة!.. نهايتك! ".
لم يشهد " أطروش " غده، كما تقول الأوراق التي أمامي فوق المكتب، غرست في بطنه خنجرا، ألبسها تهمة ، ما كانت لتلبسها لو كنا في زمن آخر. و رحت مع نفسي أقول:" لا ! لم تقتله! لا!..يدها طاهرة، و الطهارة لا تتلطخ بأدران الحقارة،يدها عفيفة، أرفع من الانتقام، و لا يمكن للعفة أن تغتسل بماء الانتقام، و الزمن سيظل متضمخا بدماء عزيزيها، زوجها و ابنها الوحيد، المغدور بهما ذات يوم من أيام الحرية.. بل هو انتقام التاريخ.. هو انتقام الصبر...