قصــة قصيرة:

الحكومة و السباك

عمر علــوي

منذ صغري و أنا أطمح أن أصل إلى منصب رئيس الحكومة ، و الطموح ليس بدعة ، و عملت من أجله الكثير، في التفكير و في السهر على بلورة أفكاري، و في المحاضرات و الندوات و مجالس العلم من أجل الترويج لمشروعي الحضاري الذي أردت أن أجعله قابلا للتجربة على أرض الواقع ، و كان علي أن أرسمه على شكل مشروع سياسي حتى يأخذ طريقه نحو التجسيد، و كان لابد علي أيضا، بعد ذلك أن أوضح للجماهير الواسعة أفكاري الجديدة التي تضع على أسس سليمة و متينة ، قواعد عادلة لبناء مستقبل زاهر ظل إلى يومنا هذا، يفلت من بين أصابعنا كسمكة في الماء، و لذلك، أسست جمعية انضم إليها الأصدقاء و المعارف الذين اعتنقوا البرنامج، و سعينا بلا بخل أو شح لتمهيد الأرضية، و نحن كلنا أمل بأحقيته في الحظوة بالفرصة، و كلنا إيمان بنجاحه، لم لا؟ فأنا لم يراودني الشك يوما ، في صحة أفكاري و نجاعتها، في إخراج البلاد من مأزق التردّي الذي تقوقعت فيه منذ عشرات السنين، كأنما وجودها هنالك كان مقصودا، إذ لم نجد من عمل أو يعمل بجدية كافية، لأجل تدارك الوضع الخطير الذي كان يسير إلى التعفن بل صار، فكل ما تمّ، لم يخرج عن كونه مسكّنات هي أشبه ما تكون بالمسكنات التي يصفها الطبيب العاجز عن تشخيص ما يعانيه المريض، سرعان ما يزول مفعولها، بل أكاد أجزم بأن الإبقاء على المريض في حالة "اللاشفاء" هو الوضع المراد، حتى يظل طيلة بقائه على قيد الحياة، يجري لاهثا وراء صاحب "دعوته"، طمعا في جرعة المسكّن المحبوب .
و عندما بلغني خبر تعييني رئيسا للحكومة، استغرب كثيرون، بينما تعثرت الدهشة عند قدميّ، إذ وجدت ذلك أمرا طبيعيا جدا، لأنه يخضع لطبيعة الأشياء المنطقية، التي ترضى الانتصار للدوام و المثابرة، لهذا، لم أعر كبير اهتمام للتعليقات التي كانت تقاوم أو تهاجم مشروعي، بل كنت أعتبرها علامات صحة ، و شحنات إضافية لمواصلة المسير. سؤال واحد فقط، طرحته على نفسي بفضول بريء، يتعلّق بجدية الرئيس في تعييني على رأس حكومة عرجاء راكدة ، بعد انتشار خبر خطير ، حول نيّة الرئيس في استيراد طاقم حكومي كامل من مشاتل الغرب، لإرساء دعائم الديمقراطية في بلادنا ، و لما لم يكن لي من ذكاء الرئيس ما يسمح لي بإيجاد الجواب على السؤال، اكتفيت بقبول المهمة و العمل على إنجاح المشروع .
و هذا اليوم، هو أول يوم لي في الحكم، و أنا الآن في أول اجتماع - بعد جلسة التعيين مع رئيس الدولة- بالطاقم الحكومي المخضرم.
عندما بدأ الوزراء يغشون القاعة مثنى و ثلاث و رباع، كنت قد سبقتهم ، فلما رأوني واقفا في صدر القاعة ، تفاجأوا، فلم يعرفوا كيف ينهون أحاديثهم المقهقهة التي راحت تتبخر في غيوم من الأدخنة التي خلّفتها سجائرهم ، و هي تنفث روائح تمتزج فيها نكهات شرقية و غربية لم يستسغها أنفي الأبي الذي ينفر من الروائح غير الطبيعية، لم يعرفوا كيف ينهون أحاديثهم سوى بالجلوس في أماكنهم المألوفة بصفة غريزية آلية ، و علامات التعجب تتستر تحت نظراتهم السائمة، التي تفضح سرها الذي أقرأه بوضوح، فمنها ما يتجشأ شرارات الحقد و الغيرة، و منها ما يتجشأ الاحتقار و الاستهزاء، و رأيت هنالك أيضا، من كان يبدو كجلمود صخر حطه السيل من عل، ينتظر بكل هدوء الحكماء و رزانتهم، ينتظر "خرجة" هذا "الوصولي"، الجديد ، لقياس مدى مقاومتها، فجلستهم المريحة لا تدل إلا على ثقة من أن الرياح التي حطتني هنا ،سوف تأخذني بنفس السرعة التي جاءت بي، فاعتماد ظهورهم على جياد أرائكهم ،لا يمكن أن يعبّر على غير ذلك، هي حالة من الترقب تشبه اللحظة التي تسبق تناطح الجيوش في ساحة الوغى، هي فعلا حالة حرب، أو ذلك هو الإحساس الذي مرّ علي في تلك اللحظات المتشنّجة، و قلت لهم بعد ذلك بلغة بسيطة مباشرة :"إخوتي! ــ لم يكن هناك أخوات، لم يلتحقن بعد ــ، أقول إخوتي دون نعت ، لا أعزّاء و لا كرام، لن أطلق نعتا على أحد حتى يسعى له، و اعتبروا أنفسكم من الآن...
امتنعت الحركات و خيم على القاعة سكون القبور، ثم واصلت :
"... اعتبروا أنفسكم متمرنين..في ورشة السباكة...
التشنّج لبس الوجوه ، الشفاه تحجّرت،و العيون زاغت، كنت أنتظر لحظة الانفجار بين ثانية و أخرى، و لكن لم يبد على أحد أنه فهم من كلامي شيئا يذكر ، رغم وضوح الكلمات و بساطتها، قلت في نفسي :"لعله الوضوح ، أليس يقال بأن الوضوح يعمي؟ و كان لزاما علي و الحال هذه،إزاحة الغشاوة عن أعينهم فقلت لهم:" عندما تعودون إلى مرابعكم، البسوا المآزر الزرقاء، و احملوا معكم أدوات التنظيف، و مواد التطهير، و ابحثوا في كل مكان عن مصدر الروائح الكريهة التي لوثت المحيط، و ابدأوا.. من الطوابق العليا ، ...
اهتزت القاعة غضبا، في الوقت الذي أحسست فيه بجسمي يرتج ، كانت يد ابني على كتفي تهزني هزا عنيفا، و صوته المتوسل يطرق أذني:
ــ أبي..أبي! انهض..انهض..السبّاك وصل.. السبّاك وصل..
كانت مواسير المطبخ مسدودة منذ أيام، و الروائح الكريهة الغازية لم تكن لتثير أنفي الذي لم يعد يفرّق بين الخبيث و الطيّب، و ربة البيت متمسكة بمبدأ الاختصاص. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي