![]()
" لن تجدني هناك..لأنّ حياتي لم تكن بدايتها من هناك، و لن تكون.. حياتي نمت في أرض زكيّة طاهرة، أيّامها تاريخ مشهود سجّله الزمان و المكان بأحرف من نار و نور لا يمحوه النسيان.. و يوم مولدي ليس كسائر الأيّام، هو أعظم ممّا تصوّره لك الزجاجة التي سجنت فيها حياتك، يوم لن أنساه كما تحاول أنت محوه من ذاكرتك بهروبك إلى عالم التبريرات الواهية، يكفي أنّه يوم معراج والدي الذي لم تسعد عيناه بمرآي، و لم تطبع شفتاه على خدّي قبلته الحبلى حبّا و حنانا، و لم تسمع أذناه أحلى الكلمات التي ينطقها الأطفال و هم يتعلّمون الكلام..
" .. و ترعرعت في حضن أمّي التّي أفرغت كلّ حنانها في أعوام معدودة، و رحلت بسرعة مخلّفة إيّاي وحيدة تتقاذفني الأيدي و الأهواء إلى أن صرت يافعة، و أحبّني الناس، غير أنّ حبّهم لي، ليس هو الحبّ المأمول، كان حبّّا أجوف بغلاف سميك من النّفاق و الانتهازية.
" .. غازلني شبّان كثيرون و شياب، و الكلّ يعدني ببيت عصريّ في المدينة مجهّز بأحدث وسائل الرّاحة، و يمنّيني بحياة كحياة الأمراء، و أنا عقلي في فارس أحلامي الذي أنتظر قدومه على أجنحة الهواء لينتشلني من وحدتي و يطير بي إلى حيث نكوّن معا عشّنا الخاصّ بنا، في أمن و أمان، فأبني أسرتي و أربّي أولادي و أرعاهم تحت ظلال حبّه الكبير إلى أن يبلغوا.. أودّعهم كلّ صباح و هم في غدوّ إلى أعمالهم، و أنتظر أوبتهم عند المساء في فرح، و أفتخر بما أنجزوه ..و لكنّ الفارس.. لم يأت.
" .. انقرضت حتّى الآن، أربعة عقود من عمري، و أنا لا أزال بنفس الأمل و الإصرار ..أنتظر.. و سأبقى أنتظر ما دامت عيناي محتفظتين ببريقهما الساحر و النابض حبّا طفوليا، و ما دامت قسماتي، برغم تداول السنين المثقلة بالانتظار الطويل، تفيض جمالا حييّا.. سأبقى أنتظر حتّى يأتي الفارس المأمول.
" .. إنّ زكية هي دوما، زكية، و ستبقى دوما زكية، و إن بدت مهملة كنخلة في واحة بلا روح، إلاّ أنّها..نخلة..تنمو بغير اهتمام، و لكن بدون أن تفقد من ملامحها ما يوهم العاشق أنّها غير النخلة ".
ـــ آت..آت.. وجدتني أقول مع نفسي بصوت أجشّ، و صورة زكيتي التي أهملتها و هي في ربيع عمرها، تكتمل كالبدر في ليلته الرابعة عشرة أمام عينيّ الذابلتين.
مرّت عليّ لحظات عاصفة أغرقتني في لجّة من الخجل، و ألفيتني كالمستغيث أردّد:
" زكية.. زكية...". و أنا أتقلص و أتقلص و هي تكبر و تكبر ، ..![]()