#زغب_الفراش
بدأت النجوم تفقد وميضها المتلألئ، واستترت خلف الوشاح الذهبي لقرص الشمس كأنها جواري توارين في ظل سيدتها، وبدأ الستار الأسود الممتلئ بالغموض والأسرار الجاثم على الأجساد الهامدة يسحب معهُ أحلام ربما ستتحقق.. كعادتي عند السفر أطيب أنفاسي بتلاوة من الكتاب العزيز، حتى وصلت مبكراً الى صاحبي الذي كان ينتظرني على قارعة الطريق وهو يرفس بقدمهِ اليسرى عقب سيجارته كأنها خُنفساء خنقته بدورانها، بدا كئيبا بنحو قليل، صبّحتُ عليه بابتسامة، رد هو بوجه ممتعض ممسكاً ذراعهُ اليمنى التي خُلعت بحركة عصبية؛ " الله ينتقم منه" هذه الكلمات التي كان يرددها لشخص كان رفيقه بالعمل لأنه لم يؤدي عملهُ كما اتفق عليهِ، انطلقنا معاً بعد ان قرأنا سورة الفاتحة تسهيلاً للأمور وللوصول سالمين الى العاصمة بغداد، استقرت بنا السيارة في زحام كثيف عند جسر الجادرية، تذكرت الطريق وكيف كنت اتمتع بمنظر الساحات الخضراء والثمار المغطاة ، والساحات المملوءة بالملح على شكل قطع ثلجية وحركة المزارعين بين الحقول كانت مناظرها جميلة، بددها بسرعة كحُلم الظهيرة زمجرة محركات السيارات والمزامير التي تطلقها في الزُحام، هنا قال السائق الحمد لله على سلامة الوصول، أيقظت صاحبي الذي غط في نوم عميق بعد أن أطلق السباب على من عاث بنظام البلد وسوء خدماتهُ، ترجلنا على مقربة من نهاية الجسر، رحت أمرغ بصري في البنايات الشاهقة والهزيلة؛ بدت تشبه امرأة امتدت بها السنين إلى أرذل العمر، والى نهر دجلة وكأنه كهل يتوكأ على عُكازه عند جريانهِ؛ لقد ذهبت أيام شبابه، كان شابا يسابق ريح الخريف التي تعصف بأوراق الأشجار لتركلها على مدارج البيوت والدكاكين وأبواب المدارس، وهي كطفل يتيم فُطم على ثدي عرابتهُ، دهشت لهذا المنظر الكئيب حتى الحمام الرابض على سطوح المآذن ذو اللون الرمادي وقزحيتهُ الحمراء التي يرمق بها الضيف على بعد فراسخ بدى كخشبة هشة تذروها ريشه الرياح .. وعندما دخلت أنا وصاحبي ذاك البرزخ الطويل ذو الوجهتين في منطقة الكرادة خُيل إلي وكأن المنطقة بلا تاريخ بلا زمن كل شيء فيها تحول الى الجمود أمسد ناظري جدرانها، أتفحص أركانها التي استحالت الى فتاة رُسمت جدائلها بدخان أبيض وملامح وجنتيها الورديتين بسخام الجمر المتناثر على أرصفة كالحة، بدت كأنها امرأة طاعنة في السن، تشخص للقادم إليها بعيون غائرة طوقت جفونها هالة من الجزع الرمادي عله ينقذها من جحيم ألمّ بها وأشعل سنينها رُكاما، وأذبل شفتيها المكتنزتين، كانت ترسم غنج الكلمات وتعزف نوت موسيقية، اهترأت وتشققت بأنياب حادة كأسنان الرمح، لم تعد ترتدي الطوق المزدان بالذهب الأبيض حول رقبتها النُحاسية، تهطل ثدييها المكعبين اللذان يدران العطف والحنان صارا كأنهن خُرج عجوز مجعد من مط الأيدي الخشنة. انهمرت دموعي بعد أن عُصرت في سحابة عيني، لوحتُ بيدي الى سرب فراش لم أعهده يتجول في المدينة، قبلت أضرحة لم تكن موجودة دل عليها رُكام البنايات المتفجرة والزغب المتناثر من أرواحهم المحلقة على أغصان شجيرات الزيتون الجرداء القابعة على قارعة الطريق .
ايقظني من حُزني صوت الله أكبر من مأذنة شقق جسدها بشظايا الانفجار ظلت شامخة رغم جراحها النازفة بهذا الحي، تنذر المعتدين بقرب الحساب.