البداية
- دعك من هذه الجلسة التي تضيع بها وقتك يا " فارس " في الحياة أمور كثيرة أجدى وأنفع من تأمل النجوم وكتابة الشعر ..
- أتعلم يا "نائل " هذه النجوم تطاردني ، أحس معها بعذابات كل طفل يموت وكل آهة تنطلق على شفاه المحرومين في هذه الدنيا ، أشعر بها تناديني وأحس بلهفتها للقائي ...
نائل وقد تناول كرسياً وجلس بجوار صديقه في الحديقة الصغيرة التي يوسطها منزله المبني من "الاسبست "
- والى متى يا صديقي ستبقى تدور في عوالمك الخيالية حول زمن الفروسية والعروبة وتنتظر القادمين من خلف النجوم لكي ينتشلوك من هذا العالم ...
هناك ابنة خالتك تنتظر أن تخطبها وقد طالت الوعود ، وهناك أم عجوز تستطيع بالكاد أن تلبي طلباتك وأخوتك وتحتاج إلى من يخدمها ، أما والدك فقد أصبح في سن آن له أن يرتاح فيها وأن يترك الزرع والعمل لكي يهنأ باله ويمارس شيخوخته وصلاته في صمت بين جدران بيته وأبنائه ...
"فارس " وقد تراجع في مقعده إلى الخلف وقال مغمضاً عينيه :
- أترى ، تتحدث بذات التكرار الذي يرافقني في كل مكان ، نفس الحديث بنفس المنطق والأسباب دائماًُ ، مكرر أنت ككل شيء في هذه الحياة ، لكني لم ولن أكون عدداً يضاف إلى قوانين الأشياء ، متفرد أنا يا صديقي حتى ولو لم تر ذلك ..
انظر إلى حديقتي الصغيرة التي زرعت كل شيء فيها بنفسي ، لم أزرع من كل شيء اثنين ، زيتونة واحدة ، شجرة برتقال وواحدة ، شجرة خوخ ، شجرة عنب ، نخلة وحيدة ، وشجرة ياسمين تركت لها العنان ، من كل نوع واحدة فقط ، كل نوع تفرد بذاته ، أعطى ما لم يعطه غيره ، قدم لي ما لم يقدمه غيره ، وأنا لن أعيش وأموت هكذا ، في صمت ... لن أكون رقماً يعيش بين الأحياء ثم يسجل في سجلات الأموات ... سأكون شيئاً أو لا أكون ... هكذا أنا حتى ولو لم يعجبك ذلك ..
الأم العجوز الطيبة على باب المنزل وشاشتها البيضاء تلتف حول وجهها :
- تفضوا بالداخل فقد جهز طعام العشاء ..
نائل وهو يلوح بيده :
- لا داعي يا حجة فقد شربت الشاي ولسوف أمضي ..
أم فارس :
- والله الذي لا اله إلا هو لتدخل وتتناول الطعام ، فان كل من بالداخل هم أخوة لك ..
وبدأت كعادتها تمارس الإلحاح المعروف في فلسطينيي الزمن الذي مضى ...
فلم يجد نائل بداً من ترك مقعده وتأبط ذراع فارس إلى حيث مائدة الطعام على " الطبلية "
فارس ضاحكاً :
- أتمارسين انتقاماً من الرجل يا أماه ، هارب هو من صحن الفول في بيت أم نائل .. ليجده هنا ينتظره وقد فاحت رائحة الثوم من ثناياه ... ارأفي بحال المسكين هداك الله ..
الأم وهي تلقي بنظرة عتاب على فارس :
- وهل بعد الفول من طعام ، أنظروا إلى هذه المائدة التي تحتوي أكثر من عشر أصناف لم نكن لنجد نصفها أيام الهجرة ...وكم كنا نتمنى صحناً من الفول فحسب .. ثم أن الجود من الموجود يا ولدي ..
فارس : وأين هي الأصناف العشرة يا أماه
الأم : فلتبدأ العدد إذن ، أولها صحن الفول ، ثم طبق الحمص ، ثم صحن الزيتون ، وصحن الزعتر ، وصحن الفلفل الأحمر ، وصحن الجبنة ، والِمش ، وأخيراً الماء والخبز ..
قهقه نائل ضاحكاً ، بينما بدأ فارس يعيد العد وراءها ... حتى وصل للرقم تسعة ..
فقال ممازحاً :
- لكنها تسعة فأين العاشر إذن ...
الأم في حيرة : أعددتها تسعة ، أنسيت الهواء الذي نتنفسه ويجري في شراييننا ، أليست بنعمة يا ولدي .. تضاف إلى ما سبق ..
فارس وقد أحس أن العجوز الأمية قد غلبته :
- نعم نعم ... أستسلم يا أماه ، ونحمد الله على كل حال ..كلوا في صمت فأمامنا ليلة ليلاء ..
....
**********
في منتصف الليل ...وفي موقع عسكري تغطيه كثافة الأشجار المحيطة ،
كان فارس يمارس حياة تختلف كثيراً عن التأمل والغوص في أسرار النجوم ..
كان جزءاً من مشروع تعمل عليه المقاومة الفسطينية منذ سنين ... الجندي الخارق ..
لهذا كان يخضع لتدريبات مكثفة تبدأ من منتصف الليل ولا تنتهي إلا صباحاً ، كل يوم وبصورة منتظمة منذ سنوات ...
كانت الفكرة هي تشكيل مجموعة خاصة من المقاومة تستطيع تنفيذ عمليات سريعة في قلب تحصينات العدو والعودة بسرعة إلى حيث كانت ، مجموعة تستطيع تحدي العوامل الجوية ، والتعامل مع الدبابات والجيبات وآليات العدو جميعها ، مجموعة تحفظ لغة عدوها وتتحدث بها بنفس لهجتهم وطريقتهم وأسلوبهم ... تستطيع التخفي وتحمل أقسى وأعنف الظروف ...
وكان فارس ..متميزاً ..
فقد أثبت قدرته الفائقة على التعلم واكتساب الخبرات وأبدى شجاعة ليس لها مثيل ، فكان جندياً مثالياً يقتدى به بين جنود الوحدة ...
" أبو ماهر " قائد الوحدة يبدأ في شرح آلية جديدة لتكنيكات الهجوم واقتحام المواقع والتحصينات العسكرية ، وفارس منتبهاً مصغياً ، عندما دوى في أذنيه صوت حفيف للشجر بدأ وانتهى في سرعة ...
وهنا أشار فارس بيده لقائد المجموعة علامة الصمت وبدأ يتسلل في صمت وحذر إلى مكان الحفيف حتى لاح له شبح ينسحب هارباً بسرعة ، وانطلق فارس خلفه كالبرق ، وقد بدأ الموقع يصغر من وراءه حتى استطاع القفز فوق الشبح الذي يتشح بالسواد ، أمسكه من تلابيبه وأجبره على الوقوف ، حاول الشبح المقاومة لكن لكمتين من يد فارس أسكتت صوت مقاومته وأسالت الدماء على جرح في أنفه ...
- من أرسلك يا هذا ..
قالها صارخاً ، فقال الرجل :
- للأسف ... انتهى وقتكم ..
- ماذا تقول ، ما الذي سيحدث ؟ ..
- انتهى وقتكم يا هذا ، أنتم في عداد الأموات الآن ..
لم يكد ينتهي من عبارته حتى هز انفجار ضخم مكان الموقع الذي كانوا يجتمعون فيه ، فاهتز جسد فارس في ألم ، كمن تقطعت أشلاءه ، كأنه لا زال هناك ، اهتز كيانه كله وهو ينظر إلى العميل الماثل أمامه في احتقار ... أي مخلوق أنت .. أي كيان شيطاني مريض أنت ...
وبكل ما يعتمل في صدره من غضب انهال على جسد العميل باللكمات والركلات وهو يصرخ في ألم ...
قال العميل :
- انتهى وقتك أنت أيضاً يا هذا ... فقد أرسلت إشارة بموقعنا ...
لمح فارس جهازاً صغيراً في كف الشاب ، فانهال عليه ضرباً مرة أخرى قائلاً بصوت صارخ :
- لن يقصفوننا الآن وأنت معي ...
قال الشاب في ألم :
- أتمنى هذا .....لكنهم سيفعلون ... فلتنج بحياتك الآن قبل فوات الأوان ..
واتركني لأواجه مصيري هنا ...
كان فارس يعلم هذا جيداً ، يعلم أن هذا العميل قد أدى مهمته وأصبح ورقة محترقة ولن ينفعهم بقاءه بقدر ما يهمهم موته قبل انكشاف أمره ...
دفعه بذراعيه في ازدراء وجرى بكل ما أوتي من قوة وقد أحس بصوت الطائرة وقد بدأ يقترب أكثر وأكثر ..
لكن شيخاً عجوزاً يبرز له من شارع ترابي جانبي ، يشير له بذراعيه أن تعال ، وبسرعة كان داخل منزله بينما توقفت الطائرة فوق المنزل مباشرة وكأنها تعاين الموقع قبل قصفه ..
قال الرجل العجوز وقد تأمل فارس :
- هو أنت إذن يا ولدي ... هو أنت إذن ..
فارس : أنا من يا عماه .. ماذا تقصد ؟
الشيخ : أنت من تكررت صورته في أحلامي ألف مرة ، حتى لقد بت واثقاً أنك يوماً ما ستأتي ..كنت متأكداً من هذا ... أنت الفارس الذي سيصنع شرارة النصر .. أنت الفارس الذي سيقود الثورة ...
فارس وقد علت الحيرة على ملامح وجهه المتعب :
- أي رؤيا يا عماه التي تتحدث عنها ... وكيف عرفتني وعرفت اسمي ...
قال الشيخ وهو يقود فارس إلى غرفة جانبية :
- عرفت صفتك يا ولدي ولم أعرف اسمك ... فان كانا متشابهين فان هذا لدليل على صدق رؤياي ، واقتراب حلمي من التحقق ...
لكن أزيز الطائرة يقترب ويجب أن تهرب يا ولدي ..
فارس وقد بدأ يفكر في طريقة الهروب :
- دعنا نهرب ثم نعود لنتحدث عن رؤياك ... أين بابك الخلفي ..
الشيخ :
- لا يوجد باب خلفي ، لكن يوجد لدي ما هو أكثر ، لا تسألني من أين فلن أخبرك ، ولا تكذبني فلن أعطيك إياه ، ولا تناقشني كثيراً فان وقت هروبك قد حان ..
فارس وقد بدت الحيرة تغزو وجهه كله :
- ما هذا الذي تتحدث عنه يا عماه ..؟
الشيخ :
- ها قد بدأت في الأسئلة التي لن تقود إلى طريق للنجاة ، دعك منها وارتدي هذا الحزام ، ففيه الحل والخلاص ..
ومن مكان ما جاءه بحزام فضي يتلألأ في ضوء الغرفة كالشمس ، وطلب من فارس أن يرتديه ..
كانت الضربة الأولى في ركن المنزل وبدأت جدرانه تتهاوى ...
سارع فارس لارتداء الحزام الذي يحمل لوحة أرقام في منتصفه بينما قال الشيخ بسرعة :
- اضغط على رقم السنة التي تود السفر إليها ، ستعود إلى الخلف مرة واحدة ولن يمكنك بعدها إلا القفز إلى الأمام ... المكان يعتمد على سرعة تفكيرك واختيار عقلك الباطن لمكان بذاته ، لن يكون خارج أرض فلسطين ، والزمان سيكون في الحدود التي تضعها في اللوحة ..
وتذكر يا ولدي ، لن يمكنك أن تزور نفس المكان مرتين ..
هذا هو حزام الزمن وقد أهديتك إياه أيها الفارس فسِر على بركة الله ...
فارس لم يستوعب نصف الذي قيل ، وصوت الصاروخ في الهواء وقد اقترب من الغرفة التي يقفون فيها ، فما كان منه إلا أن ضغط أربعة أرقام ، والصوت يزداد اقتراباً ...
دوى الانفجار بقوة وقد تعالت سحابة الدخان فوق سماء المنطقة ...
لكن فارساً لم يكن هنا ...
فقد أصبح هناك ...
*****
.
.
.
.
أنت عزيزي القارئ .. من ستختار الزمان والمكان ...
أنت ستحدد اتجاه الرواية للخلف هذه المرة ..
قفزات للتاريخ ستكون ..
وانتم من يحدد معالمها ..
.
.
.
.
.
القفزة الأولى بدأت الفعل ولسوف أضعها لكم هنا ثم نبدأ في التفاعل من بعدها باذن الله ..
أبو فارس