[FONT="Arial Black"][/FONT]
الشاعر والجائزة
بقلم : إيهاب النجدي
( 1 )
يورق الشِعْرُ وتزهر شجرته بالمدهش والرائع في ظلال الرعاية والحدب والتكريم، وهذه حقيقة أدبية، التمعت أغصانها منذ العهد الأول للشعر، وصاحبت قفزاته الكبرى عبر هضاب التاريخ، حتى وصل إلى سمته المعاصر، فأقيمت الاحتفالات والمهرجانات، وأنشئت الجوائز والمسابقات•
وليس من قبيل الاعتساف إذا قلنا: إن الشعر نفسه صورة من صور التكريم وعطية العطايا من الخالق إلى الشاعر، ذلك المخلوق الاستثنائي في هذا الوجود، وكذلك الشعر عطية الشاعر إلى الإنسانية، كلاهما يرفل في أبهاء هذا الفن الخالد، ويستجير به من هجير الحياة•
إنه ـ إذن ـ الشعر / الجائزة، وجاء في " اللسان " أن الجائزة: العطية، وأصل الجائزة أن يعطي الرجلُ الرجلَ ماءً ويجيزه، ثم كثر هذا حتى سمّوا العطية جائزة، ويقال: أصل الجوائز أن " قَطَنَ بن عبد عوف " من بني هلال ولَّى فارس " عبدالله بن عامر "، فمرَّ به " الأحنف " في جيشه غازياً إلى خراسان، فوقف لهم على قنطرة فقال: أجيزُوهم، فجعل يَنْسِبُ الرجل فيعطيه على قدر حَسَبه، قال الشاعر :
فِدى للأكرمين بني هلال
على علاَّتهم، أهلي ومالي
هُمُ سنُّوا الجوائز في مَعَدٍّ،
فصارت سُنَّة أخرى الليالي
ومنه حديث العباس رضي الله عنه: ألا أمنحك، ألا أجيزك؟ أي أعطيك، والأصل الأول فاستعير لكل عطاء، وأما قول القطامي:
ظللتُ أسأل أهْلَ الماء جائزة
فهي الشربة من الماء•(1)
هكذا ارتبطت الجائزة منذ البدء بالماء / الوجه الأول للحياة، فكانت جداول الجوائز تبعث ـ دائماً ـ في الشعر ألق الحياة•
وإطلالة عجلى على صور من تكريم الشعراء في التراث العربي تجلو ذلك الأثر الكبير الذي سجلته الجوائز على إبداعهم، ونحب أن نحترز هنا بأن الغاية المادية للجوائز لم تكن أبداً هي الغاية الأولى أو الأعمق، فالشاعر مكرَّم على الدوام، كرَّمه الخالق حين اختصه بمزيتي الشعور والتعبير، فهو يشعر بما لا يشعر به غيره، ويأتي تعبيره عن ذلك فذاً بين الكلام، وكرَّمه عصره حين أصغى إليه ومنحه أوسمة الدهشة والإعجاب، وأخيراً كرمته ذواكر الأجيال حين حفظت إبداعه بين حنايا الصدور وسجلته في الدفاتر، لكن يبقى الوجه المادي للجائزة هو الأبرز والأقرب إلى التصور والأذهان•
( 2 )
لقد كانت القبيلة العربية إذا نبغ فيها شاعر " أتت القبائل فهنَّأتها بذلك، وصُنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعْبن بالمزاهِر، كما يصنعن في الأعراس، لأنه حماية لأعراضهم، وذَبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنِّئون إلا بغلام يولد، أو فرس تُنْتج، أو شاعر ينبغ فيهم " (2
ونال الشاعر الجوائز لمديحه أصحاب السلطان، وأنتجت هذه الظاهرة ـ ظاهرة التكسب بالمديح ـ قصائد عالية القيمة ـ من الناحية الفنية ـ وإن اختلفت الرؤى حولها من الناحية المعنوية، ومن الصعب أن ننكر ذلك، أو ننفي جزءاً كبيراً من تراث الأمة الشعري، لمجرد الاختلاف•
كما حاز كثير من الشعراء الجوائز لجودة الشعر، وهو الشعر الخالص الذي لم يكن من باب المديح في شيء، وكان الدافع الوحيد للمعطي هو الإعجاب بالفن، وتقدير الإبداع، والمراد الحقيقي من هذه الكلمات هو التأكيد على ذلك، من خلال الشواهد والصور التي حفلت بها كتب التراث العربي

لكن نود أن نبدأ بـ " العطية الشريفة " عطية رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لـكعب بن زهير، فقد أوعد رسول الله ( ص ) كعباً، عندما أرسل إلى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام، وذكر النبي ( ص ) بما أغضبه، ولما ضاقت به الأرض، أتى إلى رسول الله (ص ) متنكراً، وفي صلاة الفجر، وضع كعب يده في يد النبي عليه السلام ثم قال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير أتى مُسْتأمناً تائباً أفتُؤمِّنه فآتيك به؟ قال: هو آمن•
فكشف كعب عن وجهه، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فأمَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشد كعب قصيدته التي أوَّلُها :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبُولُ
مُتيَّمٌ عندهـا لم يُجْزَ مكبولُ
ويقول فيها بعد تغزله :
نُبِّئْتُ أن رسـول الله أوعدنـي
والعفوُ عند رسـول الله مأمـولُ
مهلاً،هداك الذي أعطاك نافلة الـ
قرآن فيهـا مـواعيظٌ وتفصيـلُ
لا تأخُذَنَّي بأقـوال الوشــاةِ فلم
أذنبْ، ولو كثرت فيَّ الأقــاويلُ
فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله، بل تجاوز عنه، ووهب له بُردته، فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم، ثم توارثها الخلفاء، يلبسونها في الجمع والأعياد تبركاً بها، وقيل أعطاه مع البردة مئة من
الإبل •(3)
وكان العباس بن الأحنف ممن أنِف عن المدح والهجاء، واشتهر بذلك، فلم يكن يكلفه أحد بذلك من الملوك ولا الوزراء، وقد أخذ صِلة الرشيد وغيره "على حسن التغزل، ولطف المقاصد في التشبيب بالنساء (4)
وهو في ذلك يشبه عمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر، شاعري الغزل الشهيرين•
ونال أبوالعتاهية عشرين ألف درهم على القطعة الزهدية التي قالها للرشيد و مطلعها:
الله بغَّض عندك الـدنيا و بغضها إليكا
كما نال الشاعر نفسه من بعض موظَّفي المأمون ألفي درهم على أبيات في الصبر والتجمل والقناعة، وأنشد المأمون قوله الذي أوَّله:
كم غافلٍ أودَى به الموتُ لم يأخذ الأهبة للفوت ( (5
فقال له المأمون : أحسنت وجوَّدت المعنى، وأمر له بعشرين ألف درهم•
ومن ذلك أيضاً الجائزة التي نالها خالد الكاتب على أبياته الغزلية التي استحسنها إبراهيم بن المهدي والتي منها قوله:
رطيـب جسم كالماء تحسبُه
يخطرُ في القلب منه مسلكُهُ
يكاد يجري من القميص مِنَ
النعمة لولا القميصُ يمسكُهُ
ومن الواضح أن الذي أثار رد الفعل المالي هنا " ليس امتداح غرور المتلقي ولا خوفه لسان الشاعر، وإنما هو الانفعال الجمالي البحت، وهو ما يؤكد لدينا أن الفاعل في صاحب المال ـ في صلته بالشاعر ـ ليس دائماً الرغبة أو الرهبة، وإنما المثير الشعري الناجم عن أخص وظائف الشعر وأكثرها تجاوزاً للظرفيات وهو الشجو والطرب" •(6)
( 3 )
كما كان للراوية / الناقد نصيب من العطايا والجوائز، ومثل في هذا الصدد يغني عن أمثلة، يقول حماد الراوية: " استقدمني هشام بن عبدالملك في خلافته وأمر لي بصلة سنية وحملان، فلما دخلت عليه استنشدني قصيدة الأفوه الأودي :
لنا معاشر لم يبْنُوا لقومهم
وإن بني قومُهم ما أفسدوا عادوا
قال: فأنشدته إيَّاها، ثم استنشدني قول أبي ذؤيب الهذلي : " أَمِنَ المنون وريبها تتوجعُ " فأنشدته إيَّاها••• فأمر لي بمنزل وجارية•••، وردني إلىالكوفة (7)
هكذا مُنح الشاعر العطايا والجوائز بعيداً عن موقفي الهجاء والمديح، حتى في الموقف الأخير، فإن ما تمنحه القصيدة للممدوح من رفعة وخلود أكثر مما يأخذه الشاعر من نفع لا يدوم، ولننصت إلى ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض أبناء هرم بن سنان : أنشدني ما قاله فيكم زهير بن أبي سلمى، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيُحْسن، قال: يا أمير المؤمنين، إنا كنا نعطيه فنُجْزل، قال عمر : ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم
وممن رفعه الشعر بعد خمول: الـمُحلَّق ( من بني كلاب)، وذلك أن الأعشى قدم مكة، وتسامع الناس به، وكانت للمحلَّق امرأة عاقلة، فقالت له: إن الأعشى رجل مفوَّه الشعر، ما مدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه، وأنت رجل فقير خامل الذكر ذو بنات، فلو سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة .
فسبق إليه الـمُحلَّق، وأنزله، ونحر له، فلما أكل الأعشى وأصحابه، سأل الـمُحلَّق عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه وذكر البنات، فقال الأعشى : كُفيتَ أمرهُنَّ، فأصبح بـعكاظ ينشدُ قصيدته:
أرقتُ، وما هذا السهـادُ المؤرِّقُ؟
وما بي من سُقم، وما بي مَعْشقُ
ومنها قوله :
لعمري لقد لاحتْ عيونٌ كثيرةٌ
إلى ضوء نار باليفـاع تُحـرِّقُ
تشـبُّ لمقْرُورين يَصْطَليـانها
وبات على النار النّدى والـمُحَلّق
فما أتم القصيدة إلا والناس يسرعون للـمُحلَّق يهنِّئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه يخطبون بناته، ولم تُمْسِ واحدةٌ منهن إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف (8)
نستطيع ـ الآن ـ الاكتفاء بهذا القدر من الإطلالة التراثية، لنرخي النظر على حال الشعر، في عالمنا المعاصر•
( 4 )
ظل الشعر في العقود الأخيرة ـ وحده ـ في العراء، بلا بيت يأوي إليه ، أو أب ـ كبير وقادر ـ يرعاه، ظل منزوياً على قارعة زمننا اللاهث، يرى كل أخ له أو أخت ( من الفنون والآداب ) تدخل مأواها الخاص، حيث تجد هنالك من يحدب عليها ويرعى شؤونها، مع أنه الأصل ومنه تنبت الفروع، مع أنه الكبير وحوله تتحلّق الأطفال، مع أنه الوهج وعليه تتسلَّق الظلال، لكن المنطق ـ أحياناً ـ يخيب، أجل يخيب عندما يفقد الوجدان،عندما يقنعوه بأنه والإحساس ضدان•
بهذا الإحساس ـ وحده ـ الإحساس بيُتم الشعر، وبهذا الإدراك وحده ـ أهمية الشعر ـ احتضنت مجموعة من المؤسسات الثقافية والجوائز الرصينة فن العربية الأول، وهي التي بزغت خلال العقدين الأخيرين من القرن المنصرم، فكانت البيت / المؤسسة التي تمنح الجوائز وتنشر الإبداع وتحتفي بالمبدعين، تأتي في الطليعة منها: مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في الكويت، ومؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في دبي، وجائزة الشاعر محمد حسن فقي في القاهرة ( مؤسسة يماني الثقافية) •
إنها دولة الشعر، الحاكم فيها هو الشاعر والمحكوم هو الذوق العربي، كلاهما ينعم في ظل دستور الحق والنبل والجمال، لا ظالم فيها ولا مظلوم، بل عندها نستطيع أن نقول: طوبى للحاكم والمحكوم•
إيهاب النجدي
الهوامش
1 ـ لسان العرب" جوز"•
2 ـ العمدة: ابن رشيق القيرواني، ج1/153•
3 ـ راجع: ديوان كعب بن زهير، ص 84 ـ 89•
4 ـ العمدة، ج1/185•
5 ـ الأغاني، ج4/57•
6 ـ الشعر والمال، د•مبروك المناعي، 418•
7 ـ الأغاني 24/182•
8 ـ العمدة، ج1/125،180.