العصافير لا تكتفي بالخليل
(رؤية في الشعر و الوطن)

ليس ثمة معركة إذن.. أو هكذا يبدو على الأقل..

و ليس بالشعر وحده يحيا الإنسان يا صديقي..
ما جدوى تطور الأشكال و الألوان ما دام فضاء الكتابة مختنقا برائحة البارود الفوسفوري الذي لا تداويه (ما لنا كلنا جو يا رسول)للمتنبي أو (جدارية)محمود درويش...؟
ثمة إدهاش فوق العادة متخفٍ في أحذية الأطفال المشاة على رائحة الموت و هم يُودعون جثثهم إلى لقاء قريب في دورا لحضانة، المندهشين من بريق علب الهدايا الموزعة عليهم من الفريق الأممي العامل تحت القصف و المستثنى من الموت الحقيقي بقدرة الرادارات و بعض المندسين في الصفوف..

كيف يمكنني أن أكتب بـ" قفا نبك" و قد ضاع الحبيب في عشوائية هدم المنزل و في يده خاتم الخطوبة المضرج بدم الوطن..

لا شك أن عنوان قصيدتي القادمة سيكون:
العصافير لا تكتفي بالخليل
و للفاهم أن يفهم عند ذلك بأن العصافير هم الشعراء في أول وهلة قرائية، و أن الخليل هو الخليل بن أحمد محيلا كعادته إلى دوائره التي لم تتوقف بعد عن الدوران في ذهنه هو فقط ،منذ أن اكتشف أن الكتابة حول الشعر أنسب له و أهم من الاشتغال بترتيب الحروف حسب المخارج، لأن ذلك سيُضعفُ بصر "العين" الذي ضاع في زحمة تبييض المخطوطات من الحبر ذات غزوة تترية(و ليست أمريكية) على بغداد، و لم يعثر له (أي كتاب العين)على أثر إلا ما تداولته الألسن الحاقدة و هي تعدد مناقب الرجل و بلاءه البلاء الحسن في التأسيس لعلم العروض.. وكأن العصافير في هذه الحالة قد ملت الطيران الدائري على بحوره، و لم يعد لها إلا الخروج من المدارات المحددة سلفا لكي تحط في أرضٍ منفىً لم يسكنها أحد من قبل كما يفعل عادة الشعراء العرب المنفيّون و هم يختارون نعيم سيدني، أو برد سنت بترسبورغ، أو التجول على نهر الدانوب أو نهر الراين، ثم البكاء فيما بعد على الوطن الضائع بقصائد مملوءة حنينا بمداد خليلي عتيق..
كما بإمكان الدارس أن يجد في العصافير ما لم يتنبه له الشاعر نفسه ..لأن العصافير في هذه الحالة هم أطفال فلسطين و الخليل هي الخليل.. و كيف يريد هؤلاء الخروج بين فكّي جدار عرب 48 و عرب 67 ..

لا شك أن كل كتابة حول الشعر تحاول أن تحيط بالمرتكزات التي يدور حولها مفهومه و القضايا التي تدور في فلكه.
كما أن كل نظرة هي رؤية خاصة لهذا المفهوم و كيفية تحقيقه على بياض الكتابة.
و قد لا تكون خاصة بشخص لذاته ،لأنها تطرح كثيرا مما طرحه المدافعون عن الرؤية الإبداعية الكلاسيكية للشعر منذ ما يفوق القرن من الزمن عندما بدأ العرب يشعرون أن ثمة رؤية أخرى مخالفة و مختلفة تأتيهم من عالم آخر..

لا شك أن الطرح المبدئي الأيديولوجي حاول أن يُقولب الأطروحات المضادة للطرفين ممن سموا أنفسهم بالمحافظين أو بالمجددين..
و لطالما كان هذا الطرح حاملا، في بنية تكوين متبنيه ، بذرة تكوينية متعسكرة في أيديولوجية المساحة الثقافية
التي كانت تتسع لكل اللغط الفكري و الثقافي المتهالك منذ أن احتدمت المعركة بين العالم العربي و الاستعمار،
و منذ أن اكتشف هذا المثقف أن الدخول في هذا اللغط أهون عليه من المجابهة الحقيقية لما كان يجري في الساحة الحقيقية من ترحيل للشعب العربي من أرض الرباط، و إخلاء الذات العربية الصامدة من آخر المعاقل المحصنة للتفرغ فيما بعد لتقسيمها، و تأسيس الكيانات المنفصلة المنقسمة الميتة سلفا المتناحرة حول بقايا تراث مكتف بذاته، لا يحتاج أحدا ليدافع عنه.. و لا يريد من أحد أن يستعمله تقية للتخفي وراء مفاهيمه لإخفاء خيباته الوجودية و الفكرية أمام صدمة الاستيقاظ على الوطن المسلوب و الأرض المستعمرة و الشعب المنقسم إلى شعوب متعددة بقدرة قادر .. وكذلك الاستيقاظ على التراث النائم و الواقع الثقافي و الإبداعي المصدوم بحداثة الغرب الصادم..
لقد شكّل الغرب رؤية إبداعية لنفسه بلورها في عصر النهضة بعد عشرات السنوات من إعادة قراءة التراث الغربي ،تراثه أولا ، ثم إعادة قراءة تراث الأمم الأخرى، و منها خاصة الأمة العربية التي قدمت له طبقا حضاريا طازجا جاهزا للاستعمال سهلا منقحا مقروءا من طرف فلاسفة المشرق و المغرب العربيين الإسلاميين..

و ما كان على الغرب عندها إلا أن يجد الطريق التي أوصلته إلى فك معادلة التخلف/التقدم ، و إعادة تأسيس فهم حضاري واع لمجاهلها الغائبة عن وعي الأمة العربية و هي تعاود السقوط في عصر الظلمات تحت ضربات المغول شرقا ، و تحت ضربات الأسبان العائدين بدعم يهودي في التخطيط و التحضير إلى بلادهم المحتلة من طرف "العرب الأجلاف"..
هكذا كانت تقول إيزابيل الكاثوليكية و زوجها ألفونسو.. و هم يرمون بالحرائر و أبنائهن و بناتهن في عرض البحر على ضفة جبل طارق(لعله هو السبب و ليس الخليل) لتنظيف الأرض المسيحية من المسلمين و تطهيرها من وجودهم..
وهكذا كذلك كان الرهبان المسيحيون و الأحبار اليهود مدفوعين من الكنيسة، يسارعون إلى مدن الأندلس التي لم تفقد بريقها بعد..للفوز بالتركة العلمية العربية الناضجة بالعلماء و الناضحة بأسرارهم في مدينة تالدة(مطمورة العلم) ..فيأخذونها كاملة بعلومها و نظرياتها و أيقوناتها الفكرية و الفلسفية التي انبنت عليها الذات الوجودية العربية المسلمة.. يأخذونها من أرض كانت تابعة للمخيال الإسلامي العربي تنظيرا و تطبيقا لتصبح في حالة شغور ..
إن هذه التركة العلمية هي التي أسست الحضارة الغربية و أعطت الرافد المحرك لحركة التجديد الغربية التي أسست فيما بعد لكل المنظومات الفكرية الغربية التي تخيفنا الآن و كأنها شيء قادم من عالم آخر..
هذه التركة العلمية التي أخذها الغرب هي نفسها التي هيأت الغرب لأن يصبح على ما هو عليه .. و ليعيد الكرّة من جديد في حروبه الصليبية التي جرت في عقر الدار.. ما دامت حالة الشغور الوجودي قد طالت الدار و من فيها.
و هذا الغرب نفسه هو الذي سيثير القلاقل الفكرية في أوساط ما سمي خطأ أو عمدا بحركة النهضة العربية ، فيشعل الفتن في أوساط مثقفي هذا العصر و يخلق لهم إشكالية اعتبروها من أهم الإشكاليات لأنهم يقدسونها ،وهي إشكالية الأصالة و المعاصرة.. و الحداثة و القدم و ما إلى ذلك من الثنائيات التي انشغل بها هؤلاء المثقفون أيما انشغال.. فألهتهم عن الأصل الحقيقي في المعركة .. و هو الحفاظ على الذات و الأرض و العرض..
و هكذا .. في الوقت الذي كان الصدام على أشده بين ما شاء الله من المقلدين و ما شاء الله من المجددين.. كانت المؤامرة تحاك من أجل إخلاء فلسطين من أهلها و إعادة إعمارها بأناس ما كان لهم أن يأتوا إلى هذه الأرض..(هكذا إذن ..إعادة الإعمار ليست جديدة)..
و قد يقول قائل : و ما العلاقة بين العمودي و الحر من جهة، و بين ضياع الأرض و العرض من جهة أخرى..
و هنا أقول :هي نفسها العلاقة المتخفية التي كانت تربط بين نونيات ابن زيدون و هائيات ولادة (بنت المستكفي لمن لا يعرفها) من جهة ،و بين ألفونسو و إيزابيل الكاثوليكية من جهة ثانية.. و قد يتساءل المتسائل بغرابة : كيف لشاعر مثل ابن زيدون و هو يعيش في ذلك النعيم ألا يكتب قصيدة نثر جميلة تؤصل لبقاء الإنسان على الأرض (أرض الأندلس)؟
و كيف اكتفى شاعر بهذا الحجم بنونية عمودية مملة ممجوجة المعنى غائبة الأفق ضعيفة الدلالة و كأنها كتبت من طرف مراهق لم ير الحرف البض مطلقا ..
ماذا بقي لنا من عمود ابن زيدون؟؟؟
و ماذا بقي لنا من حضارة الأندلس؟؟
إذا أردت أن تجد الإجابة ..فاترك ديوان العرب جانبا .. و ابحث فيما كتبه شاعر مغمور في كل عصر و مصر لأنه قال الحقيقة في نونية أخرى أصبحت مشهورة بعد ضياع الأندلس هو أبو البقاء الرندي.. و لن أستشهد هنا ببيته الأول من قصيدة يتيمة أصبح مثلا.. ليَعْلَم أمثال من يتبعون ابن زيدون و ولادة ما معنى أن يعيش الشاعرعصرا و لا يدرك فارق الوعي الذي من المفروض أن يربط بينه و بينه..
هل من حداثة في غياب الوطن..؟
و هل من تأصيل في الغياب عن الوطن..؟

إشكالية تبدو خاطئة في جوهر انسجامها مع الذات التي من المفروض ألا تطرح ذاتها في مزاد الرؤية المنتهية الصلاحية.. حتى كأن قصيدة النثر تبدو عمودية هي كذلك.. سيما و أن الخليل بن أحمد قد نسيها و هو مأخوذ بالدوران من كثرة ما اكتشف من تدوير في دوائره الكثيرة.. لولا أن الأخفش كان حاضرا لإضافتها إلى المعدود..

ليس ثمة معركة إذن.. أو هكذا يبدو على الأقل..

و ليس بالشعر وحده يحيا الإنسان يا صديقي..