الجزء الثالث: الصدمة


- "أماه ..يناديك أخي سعيد خارجا "..

ألقت العبارة شابة متحجبة صبوحة المحيا، كاشفة عن ابتسامة ذات مغزى وهي تراقب أمها تهرع ناحية سعيد، وتراها تسأله في حنان لم يمح القلق البادي عليها:

-ما بك بني؟

بقي مترددا للحظات ثم لم يلبث أن حسم أمره بطلب مباشر:

- أماه.. أريد منك أن تبادري بطلب يد سعيدة..

تفاجأت الأم رافعة حاجبيها في دهشة قائلة له:

-أنت بالتأكيد تمزح..

بدا عليه الحزم والإصرار واضحين وهو يهتف:

- ما كنت لأمزح معك في أمر سرمدي وكوني هو أساس استمرار الحياة على وجه الأرض.. أنا جاد في طلبي.. أريد أن يزداد سعدي بالارتباط بسعيدة..

خففت الأم دهشتها مبدية الجدية كأنما تستعد لجدال طويل قائلة:
-بني.. أنت في سن لا تسمح بالزواج. أو بالأحرى لن تكون قادرا فيها على مسؤولياته الصعبة، وعقباته الكبيرة، وبخاصة أنك لا زلت...

قاطعها في حدة لم تعهدها فيه يوما:

-لا تكرري حججك الواهية أماه، فالزواج سكن ومودة ورحمة، وأما عن صغر سني،فأنت أكيد تحفظين تاريخ زواج أبي بك..

ودون حتى أن يتركها تعقب على كلامه، أكمل في حدة وهو يهم بالمغادرة:

- أريدها اليوم أمي.. أريدها اليوم، وليس غدا..

اعترضته في لين قائلة له:
- إن كان ولا بد، فسأخطب لك مليكة.. هي تناسبك أكثر.. متعلمة، مثقفة، ومتحضرة..

بدا لوهلة أنه سينفجر فيها صارخا، ثم لم يلبث أن خفض لها جناح الذل من الرحمة قائلا في جدية:

- أمي.. ليس دائما ما تُقدر قيمة الشخص بمستواه التعليمي، فمن الناس من يعجبك قوله وشخصه وهو شر الخلق، ومنهم من كانت الدنيا معلمته، ففهم حقيقتها، ووقف على مضارها ومنافعها، فكان أعلم الناس، وإن جهل الفرق بين الألف والياء، وسعيدة من الصنف الأخير، خبرت الدنيا وأحوالها رغم صغر سنها،ومحدودية تعليمها..
ولعل التاريخ خير شاهد على ما أقول، فكثيرا ما تعلم الأنبياء من أناس بسطاء.. وكثيرا ما حير الصغار الكبار.. وكثيرا ما أعجز الأمي المتعلم..

لم تنبس الأم ببنت شفة وهي ترى عزم سعيد الصريح والملح في طلبه، فتركته يغادرها بابتسامة لا تتناسب مع الموقف، قائلا في خضوع:

- ومع ذلك أمي.. فالأمر يعود إليك أولا وأخيرا.. فلك الأمر من قبل ومن بعد..

**************

هي نفس الجلسة.. نفس الرسم.. وبذات العود اليابس..

الجديد هذه المرة أنه كان ينتظر بترقب وأمل.. أمل في مستقبل جميل.. وترقب يملؤه التفاؤل في الظفر بمن أحب وعشق.. كان بوده لو يسمع منها شخصيا قبولها ورضاها عليه.. وهو لا يستبعد الآن أن تغادر مجلس خطوبتها، الذي تحضره أمه وشقيقته وخالته، وتهرع إليه لتسعده ببشرى الموافقة، فيزداد فرحة فوق الفرحة التي لزمته منذ أن سمع بشرى موافقة أبيه وتكليف الوالدة بالتحضير ليوم الخطوبة.. حينها تمنى لو يسبق أمه، ليطلبها هو شخصيا ..

ألقى نظرة على المنزل البعيد الذي يتوسط أشجار اللوز، فتنهد مسترسلا في أفكاره .. أخيرا ستكون له، ولن يضطر لمواعدتها سرا، ولن يجد حرجا في تقبيل جبينها..
أخيرا سيتحرر من قيود صارمة كبلت جوارحه، رغم أنه لا يملك من أمرها شيئا.. كيف كان سيمنع قلبه من حبها، وعشقها، وهو لا يستطيع أن يتحكم في عدد دقاته، ولا كمية الدم المتدفقة عبر شرايينه واهبة له حياته؟!! هو أمر غريب بحق.. والأغرب من ذلك ما تنبه إليه الآن..

ففجأة ظهرت أمامه فتاة في مقتبل العمر، مصطنعة حزنا فاضحا، وجلست على يساره، دون استئذان فبادرته قائلة:

- أعلم جيدا مقدار الكراهية التي تكنها لي عزيزي سعيد، لكن صدقني هذه المرة، فقد جئتك ناصحة، وحسبي أنك ستقف على حقيقة ما جرى من طرف شقيقتك حينما تعود للمنزل، لتعلم صدق نيتي وعظيم وفائي.. فصراحة لا أجد لشاب مثلك العذر في التعلق بفتاة تصدمه كل مرة بكبريائها الزائف.. وحتى لا تفسر كلامي على غير حقيقته فإني أخبرك أني لست هنا بغرض التقرب إليك، فقد فقدت كثيرا من الأمل في وصالك منذ أن عرفت بالعلاقة التي تجمعك بأختي غير الشقيقة..وقد فقدت الأمل كليا حينما علمت قبل قليل ،مباركة والديً لطلب التناسب الذي تقدمت به عائلتك.

تألقت عينا سعيد للحظة ،ثم خبا بريقهما سريعا، ومليكة تكمل:

- لو لا أن...

قاطعها في حدة:

- لو لا ماذا؟

انكمشت على جسمها ،خائفة من ردة فعله لنصف دقيقة كاملة، قبل أن تحسم أمرها قائلة :

- لو لا أن أفسدت سعيدة فرحة العائلتين في لحظة..

بقي سعيد مسمرا لا يلوي على شيء، ومليكة تكمل:

- فقد اقتحمت سعيدة المجلس في رعونة،صائحة بأنها لا تريدك، ولا ترغب فيك..

ومن لحظتها لم يعد سعيد يعرف كيف استطاع كسر العود اليابس بأنامله الثلاثة فقط، ولا كيف كانت ردة فعل مليكة، وهي تتلقى صفعته القوية..

فالصدمة التي تلقاها هذه المرة، كانت أكبر من الطعنة الأولى..

أكبر بكثير..


************


تم بحمد الله وليه الجزء الرابع : الزلزال..