الحب الكبير.. قصة من أجزاء
الحب الكبير..الجزء الثالث

الجزء الرابع :الزلزال

نفس التقليد الصيفي السنوي، وبذات التفاصيل الدقيقة المتكررة.. هنا التاريخ يعيد نفسه بامتياز.. كلام الله المنزل يعلو فوق كل كلام.. يخرج من أفواه الفقهاء والطلبة بترتيل جماعي مهيب.. وفي فناء المسجد الواسع الجميل قدور على نار ملتهبة.. نساء ما هرات يفتلن الكسكس.. رائحة الشاي الممزوجة بطعم النعناع تمتزج بالهواء النقي فتتسرب لداخل الأجسام، فتشحذ حواسها وتغرقها في لذة روحية عجيبة.. وكالعادة ، لا أحد من سكان القرية يتأخر عن هذه السنة السنوية.. حتى العاجز أو المريض يحضر.. ففي الجمع بركة، وشفاء، واستجابة من الخالق للدعوات.. وسعيد كان من بين الحاضرين.. هو لم يحضر جمعا منذ أن تلقى تلك الصدمة..كان دأبه الوحيد، صباحا ومساء المكوث في مكانه المعهود، ونحت الأرض بعوده المكسر..واليوم كباقي الناس حضر..وقد أكثر الدخول والخروج، فما إن يكاد المقام يستقر به داخل المسجد ويصدع بالتهليل والصلاة على النبي المختار، حتى يكر راجعا، شاقا بهو المسجد، ومختلسا النظر جهة النسوة لعله يراها..وكان ككل مرة ينكص على عقبيه في حيرة، ولما استيأس ، غادر كليا إلى الخارج دون أن ينتبه لمليكة وأخته الشقيقة وهما تتبعان أثره، فتهتف فيه الثانية:

- لا تقلق سعيد.. هي بالذات لا يمكنها أن تتخلف عن هذه الوليمة.. وما تأخرها عن المجيء إلا لأنها نسيت حاجة لها وهي في طريقها إلى هنا مع العائلة، فكرت راجعة كما أخبرتني مليكة..

بقي سعيد صامتا للحظات وهو يحاول جاهدا السيطرة على مشاعره المتصارعة، قبل أن يلتفت لمليكة وكأنه يراها لأول مرة ويقول لها معتذرا:

- مليكة..أرجوا أن تسامحيني على ردة فعلي في ذلك اليوم..

تألقت عينا مليكة، وهمت بالحديث، لكن بدل ذلك أطلقت صيحة عفوية قوية، لتتبعها صرخات باقي النسوة، ويصدع كل الرجال بالتكبير والتهليل، فتميل مليكة يمينا ويسارا، شأنها شأن كل الواقفين، ثم تسقط أرضا، وتتبعها بعد ذلك شقيقة سعيد، وقد غابت هي الأخرى عن الوجود دون حتى أن تتمكن من رؤية ذلك المشهد المخيف..

مشهد صومعة المسجد وهي تتصدع، وتميل بجزئها العلوي نحو مقبرة القرية، فتتحطم فوق شواهد الأموات في دوي هائل، فاق دوي الهزة الأرضية العنيفة التي حدثت قبل قليل..

ألقى سعيد نظرة خاطفة على الجسمين الممدودين أمامه في سلام، ثم انطلق عدوا وهو يصيح باسم واحد..

اسم سعيدة..

**********

لو صح لنا التشبيه، لقلنا أنه كان ينبش التراب على طريقة قط أضاع فريسته بعد أن ضفر بها.. كان ينبش ويزيل الأحجار مناديا في لوعة:

- أجيبيني حبيبتي.. أي جزء من الجدار تمكن منك؟! وأي ذرات تراب وأدتك؟!

لا أصدق أن فتاة في مثل سنك هزمتني بدماثة أخلاقها، وقوة إيمانها، وكمال طهرها وعفافها، تكون قد سقطت الآن ضحية لجدار من طين؟!

بربك تكلمي.. قولي أنك حية.. قولي أن قلبك لا يزال فيه حياة، وبقية حب لي..

وأعدك سعيدة أني لن أتسبب لك بعد اليوم في ما تكرهين.. ولن أقدم على فعل إلا بعد إذنك.. سأستأذنك حتى في حبي لك.. سأستأذنك قبل أن أقول لك أني أحبك..

سأستأذنك قبل أن أنادي الأحياء والأموات ليشهدوا على حبي الطاهر لك...

بالكاد تنبهت حواسه لصوت يناديه من الخلف، ودون أن يميزه، أو يستدير ناحيته، قال وعيناه مغرورقتان بالدموع:

- أرجوك مليكة.. دعيني أندب حضي وحدي، وأبكي فقدانها، وأطلب عفوها وصفحها..

تكرر النداء من الخلف فاستدار هذه المرة، وكان ما وقعت عليه عيناه مفاجئا له إلى أقصى الحدود..

فما رآه ارتد على أحاسيسه كزلزال عنيف ، وأحدث فيه ما لم تحدثه الهزة الأرضية من قبل..

فما إن وعي صاحب النداء حتى سقط أرضا..

وفاقدا وعيه..

**********

انتهى الجزء الرابع بإذن الله

ويليه الجزء الخامس والأخير من الفصل الأول: حياة أو موت