سجيننا مستلقٍ في زنزانةٍ ضيّقة، على أطراف المدينة، ملاءتها خشنة مثقوبة كجسده، تفوح منها رائحة العرق والرطوبة. جيوش البق تغزو كل شبر منه؛ كل لمسةٍ لسعة، وكل نومٍ كابوسٌ وألم.
يصحو من شدة تهيّج جلده، ينام قليلًا، ثم يستيقظ مرة أخرى لهرش بشرته الرقيقة المنزفة من كثرة العض، ووجعٌ نفذ إلى العظم بفعل صلابة الأرض الباردة كالصقيع. يسمع أنفاسه تتردد في صمت الغرفة، كأنها الدليل الوحيد على أنه ما زال حيًا.
ثم يتسلّل أول ضوء للشمس من بين قضبان النافذة، يرسم على جسده الهزيل ظلالًا يتحسّسها بيده. يلاعب أشعة الضوء، يحتضنها بقوة مستلقٍ على وضعية الجنين، محاولًا امتصاصها جميعًا، لكنها تتلاشى كما تلاشى الظلام الليلي. يقف، يمسك خيوط الضوء، ويتتبع مسارها إلى النافذة، ليكتشف أن القضبان تمنعه من الوصول إليها.
يقطع الضوء الظلام كسيف بتار، يملأ نصف الزنزانة، تاركًا النصف الآخر غارقًا في ظلال مبعثرة. الأشعة تلامس الجدران الحجرية الباردة، فتكشف تشققاتها ولونها القاتم، وتضفي على البخار المتصاعد من الملاءة المثقوبة ثقلًا آخر خانق على صدره الضامر. صدى أنفاسه يتردد بنغمات بطيئة، رغم شجنها، ليخلق سكونًا يخفف التوتر. الهواء نفسه يبدو مختلفًا، يحمل دفءً خفيفًا يخفف من قسوة المكان، فيما النصف المظلم يذكّره بالقيود المستمرة.
يمر الوقت ببطء، والضوء يغلف الغرفة تدريجيًا، يسقط على الجدران واحدًا تلو الآخر، ليكشف صورًا ملصقة على إحدى الجدران، كأنها متحف للذكريات. هبات النسيم المتدفقة عبر القضبان تداعب الصور، وصوتها يشبه سيمفونية كلاسيكية تخترق صمت الغرفة وعقله. يتجمد في مكانه، وتغمر دموعه عيناه وهو يتأمل كل صورة.
غارق بلا وعي في ذكريات ماضٍ بعيد، مدّ أصابعه المرتعشة لتلمس صورة تذكارية، كأنها بوابة تعيده إلى لحظات مبتلعة. حاول الانغماس فيها، السفر عبر عوالمها الغارقة في الزمن، ليستعيد دفء خيالها، لكنه اصطدم بصلابة الجدار، حاجز يمنع أي التقاء.
أغمض عينيه بقوة، محاولًا نسيان تلك الذكريات، وتمنى حلول الليل ليغمر الغرفة بالظلام، وتختفي الصور بماضيها، ويبقى فقط سنا القمر المنسدل عبر نافذتها، وهج يشجعه على النوم والسلوان.
لكن لا ليل أراحه، ولا نهار طمأنه.
---
ليل
مظلم، بارد
نوم بألم
نهار
مضيء، دافئ
أمل بدموع