أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مسرح عابر

  1. #1
    الصورة الرمزية المصطفى البوخاري
    قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Dec 2016
    الدولة : مكناس المغرب
    المشاركات : 126
    المواضيع : 60
    الردود : 126
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي مسرح عابر

    كان الجو ربيعيًا في ذلك الصباح، ومحطة القطار تعج بالمسافرين. بعضهم يهرول مسرعًا، وآخرون يجلسون على المقاعد متأملين، يحدقون في الأفق أو في ساعاتهم، بينما يجر آخرون أمتعتهم الثقيلة بصعوبة، كأنهم يسحبون أعباء الحياة كلها.
    أصوات الصافرات تتخلل الصمت، خطوات الأحذية على الرصيف، همسات وضحكات عابرة — كل ذلك يشكّل سيمفونية مختلفة المقامات.
    رائحة الغبار المعدني وزيت التشحيم تمتزج مع نسيم الصباح البارد وروائح العطور النسائية القوية، فترتسم على وجوه المسافرين ألوان التعبير: الفرح، القلق، الترقب، الفضول…
    ومن بين الجميع، وقف صديقنا ساكنًا، صامتًا، يراقب.
    كل حركة، كل نظرة، كانت تحت مجهره، كأن عينيه تنقبان عن القصص الخفية وراء كل وجه؛ ربما سعادة، ألم، حب، خيبة، نجاح أو فشل.
    صوت المذيعة الرقيق أعلن وصول القطار. تسارع المسافرون نحو الأبواب، واحتكاك الإطارات بالسكة تلاشى عند الوقوف، ليحل محله ضجيج النزول والصعود، فوضى قصيرة سرعان ما هدأت. اتجه كلٌّ إلى عربته، تاركين خلفهم صدى الأقدام والحقائب.
    في العربة الاقتصادية ذات المقاعد الثمانية، جلس صديقنا قرب الباب، بجانبه سيدة أنيقة في مقتبل العمر. قربها رجل بنظارات طبية يتصفح جريدته، وإلى جوار النافذة شيخ بلباس تقليدي ولحية بيضاء، تتراقص بين أصابعه تسبيحة خضراء.
    أمام الشيخ جلست سيدة أربعينية بلباس عصري ونظرات حادة تنم عن ثقة مفرطة. إلى جانبها طفل يلهو بسيارته الصغيرة، غير مدرك لما يدور حوله، وإلى جواره رجل نحيف، أشيب الرأس، يبتسم ابتسامة باهتة، كمن يحاول إخفاء ضعفٍ ما.
    أمام صديقنا جلس شاب غير مهندم، ملامحه شاحبة، شعره أشعث، وعيناه تتهربان من أي اتصال، كأنه يختبئ من العالم.
    باب العربة مغلق، والأنفاس تتصاعد ببطء، مولّدة جوًا خانقًا.
    بدأ العرق يتصبب من السيدة الأربعينية، تمسح وجهها بمنديلها، تتمتم بكلمات ضجر، بينما الطفل ما يزال يلهو ببراءة، والشيخ يراقبها بهدوء كزهرة تتلوى قبل أن تنكسر.
    صاحب النظارات منشغل بكلماته المتقاطعة، يتمتم بين حين وآخر.
    السيدة الأنيقة تتفقد هاتفها مبتسمة، تُظهر طقم أسنان أبيض خلف شفاه حمراء جذابة.
    الرجل النحيف يسرق النظر إليها، غارقًا في نبيذ شفتيها، متجاهلًا زوجته وطفله.
    أما الشاب الأشعث، فكان منكمشًا في مقعده، يختلس النظر إلى سيقانها الممدودة، ويطأطئ رأسه كلما التقت عيونه بعيون الآخرين.
    وصديقنا، ما زال ساكنًا، عيناه تتبعان التفاصيل بصمت، كمن يلتقط صورًا ذهنية للعالم.
    ثم بلغ التوتر ذروته؛
    لم تعد السيدة الأربعينية تطيق الجو، حاولت فتح النافذة دون جدوى، نهضت بعصبية، دفعت برِجل ابنها دون قصد، واتجهت نحو المكيّف فوق الباب تعبث بأزراره بعنف، كأنها تفرغ طاقتها المكبوتة في الجهاز المعطل.
    استدارت غاضبة لتعود إلى مقعدها، فاصطدمت نظراتها الثائرة بنظرة خاطفة من الشاب الأشعث، الذي تجمّد للحظة، كأنها صفعة غير متوقعة، لولا أن صوتًا هادئًا شق الصمت:
    ــ تعالي، اجلسي يا ابنتي…
    ــ اهدئي، الصبر مفتاح الفرج…
    كان الشيخ هو المتكلم. نظرت إليه السيدة ثم عادت إلى مقعدها بثقل ظاهر، لتفرغ انفعالها على زوجها:
    ــ ألم أقل لك أن تشتري تذاكر من الدرجة الأولى؟ أيعجبك هذا الآن؟
    ــ هكذا أنت دائمًا… لا تصلح لشيء!
    حاول الرجل التبرير بصوت متلعثم:
    ــ ل.. لقد حاولت…
    لكنها قاطعته بحدة:
    ــ اصمت! ودعني وشأني!
    لم تلحظ حتى ولدها. ثم رمقت صاحبة التنورة بنظرة متقدة، كأنها اكتشفت ما كان يشغل زوجها.
    ابتسم صاحب الجريدة بسخرية، وقال بصوت خافت كأنه يهمس للهواء:
    ــ زهرة القلب النازف جميلة جدًا… بلون أحمر شفاهك وبياض تنورتك…
    ابتسمت صاحبة التنورة له بدلال، وقالت وهي تربت على شعرها:
    ــ شكرًا على ملاطفتك…
    فأضاف بابتسامة ماكرة:
    ــ لكنها، للأسف، سامة قاتلة.
    سمع الزوج التعليق، فتجمّد. نظر إلى زوجته، فوجدها تحدق به بعينين كفخٍّ قاتل، فضمّ ابنه إلى صدره كدرعٍ يحتمي به من نظراتها.
    دنت صاحبة التنورة من صاحب الجريدة، عينيها تلمعان بثقة، وقالت بصوت ناعم يقطر استفزازًا:
    ــ يبدو أن يومنا طويل جدًا… أليس كذلك؟
    فرد مبتسمًا:
    ــ نعم، طويل… لكن وجودك يخفف وطأته، يا زهرة القلب النازف.
    ضحكت بصوت عالٍ، مالت برأسها نحوه كأنها ستهمس، ثم تراجعت وغمزت، وأزالت معطفها بخفة، فانعكس الضوء على بشرتها كوميض صيفي، وقالت بصوت عذب:
    ــ نعم، هي سامة، لكن جمالها يشفي العليل، وإن لم تنفع للدواء، فهي للزينة أجمل.
    كانت الأربعينية تراقبها في صمت يغلي، ثم نهضت بخطوة محسوبة نحو الأمام، تُظهر للعربة كلها لمحة من قوتها وجاذبيتها. لكن المعطف انزلق من يدها وسقط بين قدمي الثعلب، الذي أسرع لالتقاطه دون تردد.
    ابتسمت له بوجهٍ واثقٍ دافئ، نظرة خاطفة حولته إلى أسير انبهارٍ عميق.
    بينما ظلت السيدتان تتبادلان النظرات في صمتٍ مكهرب، كأن بينهما حربًا لا تُرى.
    توقف القطار في محطة فرعية، نهض الشيخ من مقعده ببطء، وتقدّم نحو باب العربة، فتحه قليلًا ليستنشق نسمةً من الهواء النقي، ثم عند عودته، توقف بين السيدتين، عيناه هادئتان ينظر إلى الطفل الذي يراقب تسارع الأشجار، بابتسامة بريئة، وقال بصوتٍ حكيمٍ رزين:
    ــ تذكّرا، أيّتها السيدتان، أنّ لكل لعبة حدودها، وأنّ العيون التي تراقب قد لا تكون كلّها ممتنّةً للمرح…
    ثم ربت على كتف الطفل قائلاً بلطف:
    ــ أما أنت، أيها الصغير، فامرح كما يحلو لك.
    احمر وجه السيدتين خجلًا، وشعرتا بثقل كلماتهما يتردد داخلهما، كأنه مرآة للحظة وعيٍ صامتة.
    ورمق الشيخ الثعلب بنظرة ازدراء، فجلس منكسرًا في مقعده، يتمنى لو ابتلعته الأرض.
    توقف القطار أخيرا، وغادر الجميع العربة. بقي صديقنا للحظة يتأمل المقاعد الفارغة.
    كانت آثار الوجوه والانفعالات ما تزال عالقة في الهواء، كأنها بقايا حياة صغيرة عبرت لتترك بصمتها.
    ابتسم في صمت، ثم التقط دفتره من الحقيبة، ودوّن:
    "ما القطار إلا مسرحٌ عابر، كل راكب فيه يؤدي دوره قبل أن يترجل منه، تاركًا خلفه القليل من ذاته.

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 22,877
    المواضيع : 386
    الردود : 22877
    المعدل اليومي : 4.75

    افتراضي

    قصة ترسم واقع الحياة من خلال مجموعة تجمعت في قطار
    فرسمها كاتبنا بريشة فنان صافي الذهن يستمتع بالوصف والتحليل
    وقد جمع بين شخصيات متناقضة نراها من خلال بطل قصتنا الذي
    يقف مراقبا ومنقبا بين الوجوه عن القصص الخفية وراء كل وجه
    وبمقدرة فنية بارعة تصويرا وبناء، وبأسلوب سردي متميز يعرض لنا
    الشخصيات التي تجمعت في القطار
    ومثل أي مسرح تعددت الشخصيات واختلفت بين شيخ وامرأة بطفلها
    ورجل نحيف أشيب، وامرأة اربعينية وشاب أشعث وغير مهندم
    وصاحبنا يتابع ما يحدث بين كل هؤلاء بصمت وتركيز كأنه يلتقط صورة ذهنية للعالم
    وقد أجاد وبرع الكاتب في معالجته وتوصيفه ببراعة في التصوير كأننا
    أمام مشاهد غاية في الأتقان التقطها مخرج لتظهر التباين والاختلاف بين
    طبيعة وسلوك كل شخصية
    وتنتهي الرحلة ليدون صاحبنا :(ما القطار إلا مسرحٌ عابر، كل راكب فيه يؤدي دوره
    قبل أن يترجل منه، تاركًا خلفه القليل من ذاته.)
    استمتعت بما قرأت فشكرا لك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي