يمر الإنسان أحيانًا بلحظات يشعر فيها وكأنّه لن يعيش سوى للحظات أيضًا ، وتتراءى أمام عينيه كل المشاهد التي أحبها ولم يتمكن من صنعها ، وكل صور من أحبهم ولا يستطيع رؤيتهم ، وقد يكون محظوظًا جدا إذا ما تذكّر الله تعالى ، وتفكّر في كل ما صنعته يداه ، و أي مصير سينتظره .
الإنسان المؤمن يجب أنْ تترسخ في نفسه قاعدة مهمة ألا وهي حسن الظن بالله تعالى ، والثقة بعفوه وغفرانه ، ويجب أنْ تبنى هذه القاعدة من الأصل على أسس متينة يكون من ضمنها عدم مخالفة شرع الله تعالى ، ومن خالف ونسيّ أو ارتكب عكس ذلك ، فإنّ الله غفور رحيم ، و من خالف وعصى مع سبق الإصرار والترصد فإن الله شديد العقاب ، وبين هذا وذاك هناك فسحة من الوقت ليراجع كل منّا نفسه .
أنْ يبقى من عمري يومًا وأقف بين نفسي ونفسي لأعرف ماذا سأفعل ؛ فهذا أمر أصعب من الموت نفسه ، لذا غيّب الله تعالى عنّا ذلك التوقيت لكي لا نجزع ، ولكي لا نتّكل ، ولكي لا نموت رعبًا ، وهذا من تمام عدله سبحانه وتعالى ، ولأنّ كل نفس ذائقة الموت ، ولا تدري النفس متى تموت وبصريح القرآن الكريم ، فإنّ الأمل يبق سيد الموقف ، وإنّ النفس اللوامة والأمارة بالسوء لديها فرصة حقيقية لمراجعة دينها ودنياها ، في محاولة للوصول إلى مستوى تلك النفس المطمئنة ، أو ما يعادلها ، وزماننا مليء بكل المغريات التي تدفع النفس لفعل عكس ذلك ، والقابض على دينه كالقابض على جمرة من نار ، ومن رحمهم ربي برحمته الواسعة فهم من عرف طريقه وسار معها حاملًا حسن الظنّ بالله تعالى وزاده ثقته اللا محدودة بعفوه ، ومن منّا لا يخطئ ولم يرتكب معصية إلا من رحم ربي .
رأيت أناسا - وهذا كجواب مباشر على سؤالك القيّم – منهم من أصيب بمرض عضال ، وقد حدّد الأطباء له شهر أو شهرين كحد أقضى ويودع بعدها الحياة ، وكنت أجلس معه وأراقبه من بعيد وكان دائم الصمت ، إلا ما ندر ، وكان يعرف هو ما يعرفه المحيطون به ، وكنت أناقشه فيتكلم بثقة كبيرة بالله تعالى ، وعندما كان ينازع الموت اقتربت منه ، وسألته عن حاله لم يتغير جوابه رغم أنّ إجابته كانت عن طريق العين لا اللسان ، فكانت ثقته بالله كما هي لم تتغيّر ، لكن الحزن والألم كان باديًا على محياه .
وعرفت أيضًا من مات وكان يعرف أنّه سيموت وبعد ساعات ولكنه لم يكن يعرف أية ساعة من بين تلك الساعات التي قُدّرت بعشر أو أكثر ، ولكن الموت لم يكن بسبب المرض وإنما بسبب مرض الأفعال التي تودي إلى التهلكة وإلى القصاص العادل ، نظرت في عينيه طويلًا وهو الراحل في رحلة لا عودة معها ، محاولًا أنْ أعرف أكثر عن مقدمات تلك الرحلة ، فلم أعرف شيئًا ، كل ما في الأمر أنّ لونه تحول إلى سواد قاتم ، وعيناه غائرتان في وجهه و لا تكاد تراها ، ولم ينبس ببنت شفة ، وما بين تلك الوجوه التي رأيتها هنا أو هناك في رحلة العمر هذه ، لطالما واجهني سؤالك هذا فرأيت أنّ أحسن إجابة أنْ يحسن الظن بالله مع حسن العمل ، وأنْ لا ييأس من روح الله " قال تعالى (وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ) يوسف آية 87 ، وقال تعالى (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) الحجر آية 56 ، وما بين عدم القنوط وحُسن التوكل على الله تعالى تأتي آية كريمة لتشرح صدورنا وتعيننا على أنفسنا قال تعالى (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. {الزمر آية 53 . والمسلم الحق هو من يجمع بين الخوف والرجاء ؛ يرجو رحمته ويخاف عذابه ، ونحن نذنب ونذنب ، ولكن الله تعالى غفور رحيم ما تجنبنا الشرك به – والعياذ بالله – قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم " رواه مسلم ، ويبقى على الإنسان أنْ يعرف كيف ولماذا يذنب ، وما بين ذنب وذنب تكمن المشكلة ، وليست كل الذنوب بنفس الحجم والقدر من العقوبة ، وعندما تضعف احتمالات البقاء في هذه الدنيا ، يأتي الامتحان الكبير ، والأعمال بخواتيمها .
نسأل الله العفو والعافية ، وشكرًا لهذا السؤال أختنا الفاضلة يسرى على آل فنه ، فهو سؤال يجب أنْ نردده على أنفسنا ومسامعنا ليل نهار .
وأعتذر عن الإطالة ،وعن عدم توفيقي في الوصول إلى إجابة شافية ، ولكن هذا ما حضرني في هذه العجالة ، وفقك الله وحفظك وسدّد خطاك.
تقديري واحترامي