مقالة :
إلهَامُ الشَّاعِرِ وصَنْعَتُه

يتمطَّى إحساسُ الشَّاعر لحظةَ انْثِيالِ الإلهامِ على قلبِه وعقلِه؛ فتأتي الصُّوَرُ متأنِّقةَ الأسلوبِ، جليَّةَ اللَّغةِ، طافحةً بالأحاسيس والرُّؤَى، ضمنَ تصاويرِها التَّعبيريَّةِ الخلاَّبةِ، ولا يكونُ في مقدورِ الشَّاعر تفسيرُ حالتِه هذه، وقدَ أَخذَ قِسْطًا من الرَّاحةِ، بعدَ انقطاعِ سيلِ الإلهام. وإذا ما تُحُدِّثَ إليه في أثناءِ تلكَ الحالةِ سيكونُ قطعًا خارجَ مجالِ الوعيِ، غيرَ مُدركٍ لما كانَ يدورُ بفلكه، أو لِمَا انتابَهُ واعتراهُ حينها.
.. ولكنَّ اللَّحظةَ التي ينصرفُ فيها الشَّاعرُ إلى خلوتِه_ متقفِّيًا آثارَه، مستبينًا طريقَ أبياتِه على مسوَّدتِه_ سيتدخَّلُ العقلُ حينها لينزعَ عن سُطورِه شوائبَها، فيضيفُ كلمةً هنا، ويحذفُ مقطعًا هناكَ، بمَا يتداعَى إلى حافظتِه منْ معانٍ أفضلَ، وأفكارٍ أرقَى، تجعلُه ينظّمُ ما كتبَ ويرتِّبُه بمعاييرِ ما يُسمَّى بِـ" الصَّنعَة ".
.. الشَّاهدُ في الرُّؤْيَتَيْنِ أنَّ الشِّعرَ الذي يتلقَّاه النَّاس، سيقفُ على عَتبَتَيْ التَّأويلِ والانْطباعِ موقفَينِ مُتبايِنَينِ، من حيثُ التَّلقِّي والتَّأثيرُ؛ فهناكَ منَ الأشعارِ ما تنقرُ القلبَ والوجدانَ، ولا تزال معالمُها منقوشةً أخاديدَ بالذَّاكرةِ والنَّفسِ، رغمَ أعاصيرِ المشاكلِ والمشاغلِ اليوميَّةِ، وهناك أشعارٌ تندثرُ لمجرَّدِ انشغالِ بالِ القَارئِ بذُبابةٍ حطَّتْ على سطحِ مكتبِه أو يده. وبعيدًا عن قيمةِ النَّصِّ ورُؤيتِه وإرهاصاتِه ستكونُ الكلمةُ الفصلُ للمتلقِّي، وهو يسمعُ أو يطالعُ شعرًا لثُلَّةٍ من الشُّعراءِ ، قد يسقطُ أحدُهم في نظرهِ _بعد حقبةٍ من شُهرةٍ اكتسبَها زيفًا أو من تقديرٍ انتزعَه بإكراهٍ_ لِمجرَّدِ أنّه لم يَرُقْهُ أو لم يَرْقَ لذائقته، وهو مُتَلَقٍّ حصيف.
..إنّ الانطباعَ الذي يتأرجحُ في نفسٍ المتلقِّي _وهو معلَّقٌ بين حسرةٍ ونشوةٍ_ لا يمكنُ أن تفسِّرَه نظريَّةٌ بعينها، محتكرةً تفسيرَ ما يحدث، لأنَّ الحسرةَ التي تنتابُه إثرَ قصيدةٍ ما ستنتابه مرَّةً ثانيةً في زمانٍ آخرَ نشوةً وحبورًا، وربَّما جرَّاءَ القصيدةِ نفسِها، وقد تغيَّرَ المزاجُ والمكان؛ بل إنَّ السَّجيَّةَ المواتيةَ لِلحظةِ الإلهامِ تكونُ أقربَ إلى صدقِ الشَّاعرِ، المتفاعلِ مع أحداثِه الخاصَّةِ أو العامَّةِ. وهذا لا يعني بالضَّرورةِ أنَّ "الصَّنعةَ" لا تحفظُ له هيبتَه وعنفوانَه.. ولعلَّ تراتُبَ الأمْرَينِ ( إلهام/صنعة) أمكنُ للنَّصِّ _ضمنَ القاموسِ الشِّعريِّ مع صِدْقِيَّةِ النَّظريَّةِ_ حيالَ تحامُلِ الشَّاعر على النَّصِّ، بينما يريد توجيهَ دفَّةِ الشِّراع يُمْنةً أو يُسْرةً.
يوسف الباز بلغيث _ بيرين / الجزائر: نيسان – أفريل 2015