بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين حمداً يليق بجماله وجلاله والصلاة والسلام على سيد الخلق ورحمة الله للعالمين سيدنا محمد اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه وآلهم وصحبهم أجمعين. وبعد

فإن الهجرة النبوية المباركة من أهم أحداث التاريخ ، بل أن التاريخ الإسلامي تم عن طريقها ، وبدأ منها ، وهي نصر لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبالتالي نصر لأصحابه رضوان الله عليهم كما أنها نصر لدين الإسلام ولقد سمَّى الله تبارك وتعالى الهجرة ـ في كتابه العزيز ـ تصراً فقال جل شأنه مذكرا المؤمنين ومحفزاً لهم على الجهاد لنصرة دينه : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } ( 40 : التوبة ) كما أنها كانت مقدمةً للانتصارات العظيمة في غزوة بدر الفرقان وغيرها من معارك الإيمان .والنصر الواضح للجميع من حدث الهجرة أن الله نجى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من مكر الماكرين وكيد الكائدين ونقل إليه ما دار بينهم في المؤامرة الكبرى للتخلص منه ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ يقول الله عز وجل : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُيتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } ( 30 ـ الأنفال )

وقد هام الشعراء بهذا الحدث العظيم واعملوا فكرهم فيما فيها من عظات وعبر وعبروا في أشعارهم عما دار بوجدانهم نحو هذا الحدث العظيم وجاءت كثرة من أشعارهم تصف معجزة الغار المبارك ( غار ثور ):

ولنبدأ بالإمام البوصيري المادح العظم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم في قصيدته المباركة ( البردة ) التي عارضه وقلده وسار على نهجه فيها كثرة من الشعراء من بعده حين وقف بجميل فكره على حدث هام من أهم أحداث الهجرة ألا وهو ( الغار ) وها هو حدثنا في قصيدته ( البردة المباركة ) في معرض الحديث عن معجزات النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ فرضي الله عن الإمام البوصيري حين قال :

وما حوى الغار من خير ٍ ومن كرمٍ = وكل طرف من الكفار عنه عمي

فالصدق في الغار والصديق لم يرما = وهم يقولون ما في الغار من أرم

ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على = خير البرية لم تنسج ولم تحم

وقاية الله أغنت عن مضاعفةٍ = من الدروع وعن عالٍ من الأطم

وعن الغار يحدثنا رب السيف والقلم الشاعر المجاهد محمود سامي البارودي في قصيدته التي عارض وحاكى بها الإمام البوصيري وسماها ( كشف الغمة في مدح سيد الأمة ) فقال ـ رحمه الله ـ واصفاً ما صنعته حشرة العنكبوت على باب الغار ووجود سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم داخله :

وارت فم الغار عن عينٍ تلم به = فصار يحكي خفاءً وجه ملتثم

فيا له من ستارٍ دونه قمرٌ = يجلو البصائر من ظلمٍ ومن ظلَم

فظل فيه رسول الله معتكفاً = كالدر في البحر أو كالشمس في النسم

وعلى المنوال نفسه سار أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته ( نهج البردة ) فوصف حيرة المشركين خارج الغار ، وما كان من دفاع جند الله من عنكبوت وحمام ، وما في الغار من تسبيحٍ وتلاوة ، ثم عودة الكفار تشيعهم اللعنة وتعلوهم الخيبة ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ والصديق رضي الله تعالى عنه في رعاية الله وعنايته ـ عز وجل ـ فقال ـ رحمه الله ـ :

سل عصبة الشرك حول الغار حائمةً = لولا مطاردة المختار لم تحم

هل أبصروا الأثر الوضاء أم سمعوا = همس التسابيح والقرآن من أمم

أم هل تمثل نسج العنكبوت لهم = كالغاب والحائمات الزغب كالرخم

فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم = كباطلٍ من جلال الحق منهزم

لولا يد الله بالجارين ما سلما = وعينه حول ركن الدين لم يقم

وجنود الله في الرحلة المباركة كثيرة منها العنكبوت ، والحمامتان الوحشيتان وما أجمل ما قاله أحد الشعراء ! في وصف العنكبوت والحمام وما صنعاه في دقةٍ وإحكامٍ على باب الغار خدعةً للكافرين ودفاعاً عن سيد الخلق سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ بل أنه يعطينا إشارة بأن هذه الجند تعرف مهامها وتسعى في إنجاحها فقال :

وخافت عليك العنكبوت من العِدا = فحاكت بباب الغار مكراً بهم سترا

ووافتها في الذب عنك حمائم = أتين سراعاً فابتنين به وكرا

فلما أتى الكفار طرن خديعةً = فحيا الحيا تلك الخديعة والمكرا

وقال البوصيري ـ رضي الله تعالى عنه ـ أيضاً عن الغار في قصيدته اللامية :

وجلل الغار نسج العنكبوت على = وهنٍ فيا حبذا نسج وتجليل

عناية ضل كيد المشركين بها = وما مكايدهم إلا الأضاليل

إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما = كأن أبصارهم من زيغها حول

وقال أحدهم واصفاً نعم الله في تسخير الحمام والعنكبوت وعمى الكفار عن النور المحمدي داخل الغار :

تباركت يا الله أعطيت أحمدا = نعماءك العظمى وأفضالك الغرا

ففي الغار قد باض الحمام لوقتها = وفي الغار حاك العنكبوت له سترا

رأته عيون الكافرين فأغمضت = وصار عمار الغار في عينهم قفرا

ولأبي زكريا الأنصاري ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن الغار وما دار من حوار بين النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ وصاحبه الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ قوله :

وآية الغار إذ وقيت في حجبٍ = عن كل رجسٍ لرجس الكفر منتحل

وقال صاحبك الصديق كيف بنا = ونحن منهم بمرأى الناظر العجل

فقلت لا تحزن إن الله ثالثنا = وكنت في حجب ستر منه منسدل

والعنكبوت أجادت نسج حلتها = فما يخال خلال النسج من خلل

بل ذهب بعضهم إلى تفضيل العنكبوت على دودة القز التي تصنع الحرير فقال :

ودود القز إن نسجت حريرا = يجمل لبسه في كل شي

فإن العنكبوت أجل منها = بما نسجت على رأس النبي

فاز سيدنا أبو بكر الصديق برفقة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ داخل الغار كان من حبه لحبيبه وحرصه على سلامته انه دخل الغار قبله خوفاً من أن يكون فيه ما يؤذي وليسد الشقوق ويروى أنه بعد أن دخل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ ونام على رجل الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان هناك جحر لم يسد فألقمه الصديق رجله فلدغته حية فلم يتحرك حرصاً على راحة سول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في نومه فما أيقظه إلا دمعة نزلت على وجه ـ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ وعن موقف الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ يحدثنا الشاعر عبد الحليم المصري في قصيدته ( البكرية ) فيقول :

وهاجر فاستندى المحبة صاحباً = مع الخطب طلاعاً على العهد وافيا

تقدمته في الغار تستقبل الأذى = كذلك صدر الرمح يلقى العواديا

فنام ووعد الله يؤنس قلبه = وخلَّف يقظاناً من الحزن باكيا

إذا لدغتك الجن ألفتك صابراً = على السم تخشى أن تروع غافيا

ولم يبق منك الوهن إلا أصابعاً = فألقمتها دون النبي الأفاعيا

وما انتبهت عيناه لولا تساقطت = دموع أبي بكر عليه هواميا

وللشاعر محمد رشاد يوسف قوله :

وموكب النور نحو الغار غايته = والغار يسبح في أنواره تيها

قد كان قفراً تجول الضاريات به = فصار أنس الليالي في صحاريها

به توارى رسول الله يصحبه = خير الأخلاء عن أنظار رائيها

هنا انتهى أثر الأقدام وانطلقوا = يريد أن يشبع الأحقاد طاغيها

بمدخل الغار دار الكفر دورته = وداخل الغار خوف من تلافيها

نفسي فداؤك نال القوم بغيتهم = لو ينظرون إلينا من أعاليها

وينطق الصادق المختار مبتسماً = هون عليك فإن الله راعيها

وله أيضاً :

أشرق لغار وفي أعماقه شع الضياء

وخيوط النور قد طارت به نحو السماء

ما الذي يحدث في الغار ؟ وما هذا الرواء ؟

مال الذي يجري لضيف الغار ما ذا يا محمد ؟

وللشاعر رفعت عبد الوهاب المرصفي قوله :

وجنحت نحو الغار تقصد حكمةً = والله عنك يرد كل تجرم

ودخلت والصديق في ستر الدجى = كان الوفي وكان نعم المغنم

سد الشقوق بجسمه من خشيةٍ = أن تبتلى من بعض ضر الهُوًّم

كانت سيوفهمو قريبة منكما = لولا العناية أرسلت من يهزم

وضعت حمامة بيضها في لحظةٍ = أما العناكب شيدت يعتم

وللدكتور عبد الرحمن بن صالح العشماوي قوله :

واذكري الغار الذي زاد شموخاً = وسما قدرا بمن فيه أقاما

ثاني اثنين إلى الرحمن سارا = وعلى منهجه السامي استقاما

ثاني اثنين وللرمل اشتياق = أن يرى هذا الذي فاق الأناما

هاجرا والكفر قلب يتلظى = حقده يلتهم العطف التهاما

ومن قصيدته ( طيوب الهجرة ) يقول الدكتور جمال مرسي :

بالغار قال المصطفى لرفيقه =لا تلقين إلى الأسى بقياد

ما ظن خلي والإله نصيرنا = هو ملجأي وركيزتي وعمادي

يا صاح أبشر بانتصار موشك = وبفتح مكة والقرى ومعاد
وفي قصيدتي عن الهجرة ـ وهو من معارضاتي لأستاذي د . جمال ـ قلت :
في الغار نصر الله رافق عبده = والوعد وعد الله خير عتاد
فانظر إلى جند العزيز تسابقت = لتكون عوناً للحبيب الهادي
أوحي الإله أن ادفعوا كيد العدا = ولتمنعوا الكفار نيل مراد
العنكبوت تجيد نسج خيوطها = كحديد صلب في يد السراد
وحمائم باضت لتجعل بيضها = للماكرين يفوق كل عناد
إنا رفيق الغار في كنف الذي = أوحى فأغشى أعين الأرصاد
اثنان والله المهيمن ثالث = بمعيةٍ هي أعظم الأجناد
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم