أَكْتُبُ إِلَيْكِ في عيدِكِ يا عيدَ الدُنْيا ، أَكْتُبُ إِلَيْكِ حَرْفًا لَيْسَ كَأَيِّ حَرْفٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قَلْبٍ لَيْسَ كَأَيِّ قَلْبٍ ، وَمِنْ روحٍ لَيْسَتْ كَكُلِّ روحٍ ، هُوَ حَرْفِيَ الَّذي هُوَ أَنا ، أَنْظِمُهُ مَنْظومَةَ اللَّحْنِ الْمَعْزوفِ عَلى أَنْغامِ الْعُيونِ الَّتي تَحْتَفِلُ بِكِ كُلَّما الْتَقَتْكِ وَأَنْتِ لَحْنُ الْوُجودِ الَّذي عَزَفَهُ الْكَوْنُ حينَ اسْتَقْبَلَكِ نورًا ، وَقَدْ كانَ الضِّياءُ مَرْهونًا لِجَبينِكِ ، وكانَ الْهَمْسُ مَرْهونًا لِعِيْنَيْكِ ، وَالسَّحْرُ مَرْصودًا لِصَوْتِكِ الآتي مِنْ أَعْماقِ يَنابيعِ الْغَرامِ . كانَ الْكَوْنُ يَتَرَقَّبُ ، وَكانَ الْقَمَرُ يَتَبَصَّصُ مِنْ بَعيدٍ مُرْسِلاً النُّجَيْماتِ يَتَرَقَّبْنَ اللَّحْظَةَ ، وَقَدْ غارَ عِنْدَما أَعْلَمَتْهُ الشَّمْسُ أَنَّ ضِياءً حَلَّ يُنْبِئ ُبِالَّتي سَتُزَفُّ لِلْكَوْنِ ، هذا الْكَوْنُ الَّذي اشْتاقَها أَزْمِنَةً وَأَزْمِنَةً ، وَقَدْ شاغَلَتْهُ الْحَسانُ ، وَسَعَيْنَ إِلِيْهِ كُلَّ مَسْعًى ، وَبَذَلْنَ لَهُ كُلَّ الْبَذْلِ ، وَالْكَوْنُ لا يَحْلُمُ إِلا بِها ، أَتَعْلَمينَ مُنْذُ مَتى حَلُمَ بِكِ الْكَوْنُ ؟ مُذْ كانَ الضِّياءُ يَتَكَوَّنُ ، وَالنّورُ يَتَهَيَّأُ لِلانْسِيابِ عَبْرَ الْمِساحاتِ الشّاسِعَةِ ، وَالْجَمالُ يَتَشَكَّلُ ، يَرْقُبُكِ الْكَوْنُ مُذْ كانَتْ الْحِكْمَةُ في رَحِمِ التَّكْوينِ ، وَالْيَقينُ يَنْعَجِنُ في مُخَيَّلاتِ الْفَلاسِفَةِ لا يَعْرِفُ بَعْدُ ما هُوَ الْيَقينُ ، لَقَدْ تَمَنّاكِ الْكَوْنُ وَهُوَ يُلَمْلِمُ شَتاتَهُ لِتَكونَ الْمَجَرّاتُ وَتَكونَ الْعَوالِمُ ، وَيَكونَ الْبَقاءُ والْفَناءُ ،
هَلْ كانَ الْكَوْنُ يَعْلَمُ أَنَّكِ الْمِحْرابُ الَّذي تَرَهَّبَ فيهِ الْجَمالُ يُصَلّي شاكِرًا أَنَّهُ لَكِ مِنَ الْمُريدينَ ، يُحَلِّقُ في مَداراتِكِ وَقَدْ وَدَّعَ كُلَّ الْمَداراتِ وَوَدَّعَ كُلَّ الْمَجَرّاتِ ، وَفَرَّ مِنْ كُلِّ الشُّموسِ مُطَلَّقًا النُّجومَ وَالْكَواكِبَ ؛ لِتَكوني أَنْتِ غايَتَهُ ، وَكُنْتُ سَأَلْتُهُ ذاتَ يَوْمٍ عَنْ حالِهِ في هِواكِ فَابْتَسَمَ ابْتِسامَةَ الْعارِفِ بِحالي حينَ أَسْأَلُهُ ، وَلَكَمْ سَأَلْتُهُ عَنْ أَحْوالِ الْعاشِقينَ وَالْهائِمينَ في الْغرامِ ، وَلَطالَما أَمْضَيْتُ مَعَهُ اللَّيالِيَ نَتَرَقَّبُكِ قَبْلَ أَنْ تَأْتي إِلِيْهِ ، كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّكِ آتِيَةٌ قَبْلَ أَنْ تَكوني أَنْتِ ، لكِنَّني كُنْتُ أَضِنُّ عَلى الْكَوْنِ بِالْبَوْحِ لَهُ بالسِّرِّ الَّذي يَتَمَنّاهُ ، كُنْتُ أَضِنُّ عَلَيْهِ بِتَفْسيرِ حُلْمِهِ ، كُنْتُ أَنا وَ هُوَ في حِواراتٍ ؛ كُلٌّ مِنّا يَتَرَفَّعُ عَنِ الإِجابَةِ بابْتِسامَةِ الْعالِمِ بِما يَجولُ في خَلَدِ الآخَرَ ، كُنْتُ أَنا وَ هُوَ يا أَميرَتَهُ لا نَهْجَعُ عَنِ التَّرَقُّبِ ، لكِنّي كُنْتُ الأَقْرَبَ إِلى الْمَعْرِفَةِ ، لا لِأَنَّ لَدَيَّ مِنَ الْعِلْمِ ما يَجْعَلُني الْفَيْلَسوفَ أَوْ الْعالِمَ ، أَوْ الرّاجِمَ بِالْغَيْبِ ، وَلكِنْ لِأَنَّني أَعْرِفُكِ مُنْذُ لَحْظَةِ التَّكْوينِ ، كُنْتُ أَعْرِفُكِ قَبْلَ أَنْ نَكونَ ، وَقَبْلَ أَنْ يَكونَ الْكَوْنُ ، لِأَنَّنا في بِدايَةِ الْخَلْقِ كُنّا مَعًا ، كُنّا مَعًا لَحْظَةَ الانْعِجانِ ، حينَ كانَ الْجَمالُ يَتَرَقَّبُ ، وَالسِّحْرُ يَتَرَقَّبُ ، وَالنّورُ يَتَرَقَّبُ ، وَ حينَ كانَتْ البِحارُ تَتَلاطَمُ ، والأَرْضُ خاشِعَةً تَنْتَظِرُ ، كُنْتُ أَعْرِفُكِ وَكُنْتِ تَعْرفينَني ، كُنّا هُناكَ ، يَوْمَ كانَ الْعالَمُ يَتَشَكَّلُ في اللَّوْحَةِ الْأَبَدِيَّةِ الَّتي لَمْ تَتِمْ إِلاّ يَوْمَ احْتَفَلَ بِكِ آتِيَةً مِنْ عَوالِمِ الْوُجودِ إِلى عَالَمِ الْمَوْجودِ ـ ما أَغْرَبَنا مِنْ مَخْلوقاتٍ ، تَنْسى يَوْمَ كانَتْ في الْعالَمِ الرَّحيبِ ، وَتَذْكُرُ لَحْظَةَ دُخولِها للْعالَمِ الضَّيِّقِ ؛ لِتَحْلُمَ مِنْ جَديدٍ بِالرَّحابَةِ ، وِالْعالَمِ الطَلْقِ ، وَالْفَضاءاتِ الْمُتَرامِيَةِ بِلا حُدودٍ ، بِلا مَنْعٍ ، وَبِلا بَحْثٍ عَنِ الْجَمالِ ؛ لِأَنَّ الْجَمالَ هُناكَ مُطْلَقٌ ، وَالنّورَ مُطْلَقٌ في الْمُطْلَقِ ـ وكُنا نُدْرِكُ ما لا نُدرِكُهُ الْيَوْمَ .
ابْتَسَمَ لِيَ الْكَوْنُ مَرَّةً أُخْرى ، لِأَنَّهُ لا يَبْحَثُ إِلاّ عِنْكِ ، وَيَحْتَفِلُ الْيَوْمَ بِكِ ، أَما أَنا فَباحِثٌ فيكِ ، أَجوبُ عالَمَكِ الَّذي تَحْتَوينَهُ ، وَأَحْلُمُ فيكِ ؛ لأَنَّ كائِناتِكِ مِنْها ما هُوَ مِنْ كائِناتِ الكون ، وَمِنْها أُخَرٌ لا يَعْرِفُها في عالَمِكِ إِلا أَنا ، أَيَّتُها الإِنْسِيَّةُ الْمَسْكونَةُ بِالْجِنِّيِّ ، وَالْجِنَّيَةُ الْمَسْكونَةُ بِالإِنْسِيِّ ، وَالطّينَةُ الْمَلائِكِيَّةُ ، أَيَّتُها الْمُدْرِكَةُ كَيْنونَةَ الْحُبِّ ، هذا الْحُبُّ الَّذي تَبْنينَ مِنْهُ جَنّاتٍ مُدَرَّجَةً تُهْدينَها لِلإنْسانِ ، وَتَنْظِمينَ مِنْهُ تَرْنيمَةَ التَّكْوينِ ، وَتَرْنيمَةَ اللِّقاءِ ، وَتَرْنيمَةَ التَّوْديعِ ، وَتَرْنيمَةَ الذِّكْرى . أَمّا كَوْنُ جَنّاتِكِ مُدَرَّجَةً ، فَلأَنَّكِ تَعْلَمينَ أَنَّ الإِنْسانَ مَطْبوعٌ عَلى النُّكْرانِ وَالنِّسْيانِ ، فَلَيْسَ الْحُبَّ في قُلوبِ الْمُحِبينَ بِواحدٍ ، لِذلِكَ لَمْ تَجْعَلي الْكُلَّ في مَرْتَبَةٍ واحِدَةٍ ، وِإِنَّما تُسْكِنينَ كُلاً في مَرْتَبَتِهِ ، وَأَما تَرانِيمُكِ ، فَلأَنَّكِ اسْتَأْثَرْتِ بِالنَّقاءِ ، هذا النَّقاءُ الَّذي أَتاكِ واهِبًا نَفْسَهُ لَكِ ، وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ هذا النَّقاءِ ؟!
أَكْتُبُ إِلَيْكِ في عيدِكِ ، مُسْتَمِدًا مِنْ رَوْعَتِكِ بَعْضَها ، وَمِنْ سُمُوِّكِ بَعْضَهُ ، وَمِنْ روحِكِ بَعْضَ طُهْرِها ؛ لأَنْظِمَ مِنْكِ إِلْيْكِ بِطاقَةَ مُعايَدَةٍ ، وَقَدْ اخْتَرْتِ الْكَوْنَ رَفيقًا ، وَأَنْتِ كَوْنٌ وَسِعَ الْكَوْنَ حُبًا .




مأمون المغازي
10 / 7 / 2007
مصر