لم تكن تلك المرة الأولى التى أُدعى فيها للقاء تليفزيونى.. ولكنها المرة الأولى التى تأتينى الدعوة من فاتنة مثلها.. لذا لم أستطع الرفض أو حتى التمنع رغم علمى أنها تخفى وراء مظهرها - الغير محافظ بالمرة- لساناً لاذعاً وقوة فى البيان والحجة.. ولطالما شاهدتها وهى تمسك بالميكروفون " مشرط الجراح" وتنال من ضيفها " ضحيتها" وتواجهه مع نفسه " تفضحه" وكنت أصفق لها ولبراعتها

بحثت فى أركان حياتى الماضية.. لأحصى كل نقاط ضعفى حتى لا تفاجئنى بها على الهواء.. لكنى كنت لا اجد شيئاً.. فأنا طاهر السيرة بشهادة كل من حولى .. أما صغائر الأمور فهى لا تعنى شيئاً ولا تعنى أحداً.. وهى بحكم اعتياد الناس عليها صارت عرفاً لا خجل فيه.. إن سجلى ناصع البياض.. ونجاحى المهنى يعززه ترشيحى لأرفع المناصب.. وأيادى البيضاء على المعوزين يصاحبها دوماً ضجة إعلامية تشير إلى بطرف خفى وبذكاء أحسد نفسى عليه

قدمتنى إلى جمهورها الجالس أمامى بديباجة رائعة.. وتألقت فى زيها الفاضح حتى أننى وجدت صعوبة فى متابعة كلماتها أو إبعاد بصرى عنها.. وتوالت الأسئلة المعتادة تنطلق منها فى رقة ونعومة أحسبها كجلد الأفعى.. وكنت أجيب كالببغاء.. فقد توقعت كل هذا قبلاً.. كنت أجيب بنفس الطريقة التى طالما انتقدتها فى متحدثى التليفزيون.. ولكنى لم أقو على التغيير

كانت القاعة رحبة والأضواء مبهرة والجمهور الحاضر يلتف حول مناضد صغيرة حولى وحولها.. وكانت الإضاءة مركزة علينا فى معنى خفى.. بينما يغرق الجمهور فى ظلام غير كثيف ينبلج كل حين عندما يشير لهم المخرج للتصفيق

للحظة.. تصورت الامر وهماً.. وأن هذا الجالس على المنضدة القريبة يشبه أبى كثيراً.. لكنى تسمرت من الدهشة وزاغت عيناى عندما وجدته أبى بالفعل.. أبى الذى فارق الحياة منذ عشرة أعوام بالتمام والكمال

كان الرجل يصغى بانتباه وعلى وجهه ابتسامة باهتة مصطنعة.. لم أتبين الإنطباعات على ملامحه.. لم أتيقن هل هو أبى بالفعل؟

تسألنى السيدة.. فاتلعثم.. وأردد اجابات أخرى لا صلة لها بالسؤال.. تتركنى لنفسى قليلاً.. فلا تغادر عينى وجه الرجل

يا إلهى, ماذا كنت أقول للناس قبل قليل؟ كنت أقول أنى وصلت لنجاحى بعلمى وعملى واجتهادى ولم أركن لسطوة أبى ونفوذه ومركزه الإجتماعى الرفيع !! هل سمع هذه السخافات ؟

هل هذه الضحكات صدرت عنه أم عن آخرين ؟

وأعدت القول مجدداً فإذا به يضحك.. ويصفق .. فيتبعه الحاضرون.. وبدأت فى تدارك الأمر.. فذكرت نصف الحقيقة .. و أن أبى كان يعمل بإحدى الوزارات وقريباً من صانعى القرار

زادت الضحكات .. وزاد احتقان وجهى.. ترى من أين أتى هذا الرجل ليفسد على حياتى؟ كيف خرج من قبره ليجعل منى أضحوكة أمام الناس؟

وبدأت أغير مجرى حديثى .. فقد أخذت أعظم من قيمة العمل وأن المرء بنفسه وعلمه وضمنت كلامى هذه الجملة" ورغم كون أبى إنساناً بسيطاً .. فقد .. " ..ه
وهنا توقفت السيدة المتألقة عن متابعتى والإيماء لى .. وبدأت فى التكشير عن أنيابها.. لقد التقطت هذه الجملة كبداية لحديث مدعم بالمستندات التى تعرض فى الخلفية على شاشة كبيرة عن حقيقة أسرتى.. وبدات فى مضاهاة الحقائق بين يديها وبين تصريحاتى وحواراتى مع الصحف .. وكتابى الذى حقق نجاحاً هائلاً عن سيرتى الذاتية وعراقة أصلى
!!

لم تدع لى فرصة الرد.. ولكن هل املك رداً ؟؟ وبدأت فى النبش فى صميم عملى.. وفضح أوراقى المخبأة .. وقانونى الخاص القائم على الرشوة والفساد والإفساد.. مات داخلى محام كنت اتباهى بوجوده وبسلاطة لسانه.. وكان كفيلاً بالرد على هذه اللعينة وإسكاتها.. لكنى انكمشت

كنت أنظر إليه وهو يتابعها .. وأرقب انفعالاته.. وأصبحت أنتظر صفعته او توبيخه تماماً كما كنت أفعل وانا طفل صغير.. كانت تطلب منى إيضاحات.. فارجف متلعثماً.. وأهذى بتمتمات غير مفهومة

كاد اللقاء أن ينتهى وقد كُتبت خلاله نهايتى.. وانتبهت على صوتها الرنان يدعونى لتحية المشاهدين.. كنت شخصاً آخر غير هذا الواثق المتعالى الذى كنته.. وعندما بدأت فى النظر إليه.. لم أجده.. اختفى
توقف البث.. وقالت لى بابتسامة صفراء:ـ
- عذراً, إنه عملى الذى أحبه وأتقنه.. لست ممن يجيدون التزييف فأرجو ألا تغضب.. أريد أن أقدم لك صديقاً عزيزاً.. إنه معد البرنامج وصاحب الرؤية والإبداع

مد الرجل يديه فمددت يدى ووجدت بين يديه قناعاً .. يحمل ملامح أبى