اسمى..محمد حسين الغرباوى
وفى رواية أخرى..محمد حسين شوقى الغرباوى
***
هذه المرة تختلف..أشعر باليأس يكتنفنى والعجز يقتلنى..الأمر صار أكبر من مشكلة صغيرة أحياها منذ زمن.. الرجل يصر على موقفه ويخبرنى أن على تزويده باسم آخر ليصبح اسمى رباعياً.. وإلا سيضطر لاستخراج جواز السفر باسم ثلاثى وهو ما لن تقبله كثير من الدول..فكرت أن أخبره عن شوقى.. ليدسه بين الاسماء الثلاثة المتوافرة..لكنى تراجعت..فالأوراق المطلة أمامه من ملفى البائس لا يأتى فيها ذكر شوقى مطلقاً
شعرت أن الله يرفضنى..أننى أسعى للذهاب إلى بيته الحرام.. وهو يرفضنى بهذه العراقيل..
سألت أبى ذات يوم بعيد بكل براءة الأطفال: أين جدى شوقى يا أبى؟ هل مات قبل أن أُولد؟
فأجابنى: جدك ليس اسمه شوقى .. بل عبد الله
ـ ومن هو شوقى؟
ـ أنا .. أنا اسمى حسين شوقى.. اسم مركّب
ـ ولماذا يكون لك اسمين؟
ـ حدوتة لطيفة تستحق أن أرويها لك.. عندما كانت جدتك تلدنى.. كانت هناك قابلة تقوم بعملية الولادة.. وتمنت على جدتك أن تسمى طفلتها شوقية كاسمها ..أو شوقى لو كان ولداً.. ولمّا كان جدك-أبى يريد تسميتى حسين.. فقد تقرر أن يكون اسمى مركباً جبراً لخاطر القابلة
ـ جميلة الحكاية
الآن اكتشفت سخافة الحكاية بل وغبائها..ليس الآن فقط .. بل كل سنين عمرى التى كنت أحار فيها بين ذكر شوقى أو إخفائه.. يلازمنى دوماً إحساس بالذنب إن أخفيته .. ويلازمنى إحساس آخر بالذنب لو ذكرته وظنه الناس اسمى الثالث.. واختلط علىّ الأمر..فكنت تارة أكتبه فى أوراق رسمية وتارة أخفيه
أشعر به دوماً شبح يسكن بينى وبين نفسى.. يبزغ كل حين لأطالع وجهه القمىء.. يهاجم سكونى وطهارتى.. يحرضنى على أن أكونه..بل لعله ينبئنى أنى بإمكانى أن أكون أكثر من شخص.. ويعلمنى كيف أتلون كالحرباء.. وأغير من جلدى.. بل وألفظ نفسى حيناً.. إذا اقتضى الأمر.. فهناك دوماً نفس أخرى قابعة فى الانتظار.. شخص بديل يمكن أن أدّعى وجوده ليتحمل عنى أوزارى .. شوقى هو سنام الجمل الذى برز فى حياتى دون رغبة منى.. مُحيلاً أيامى للحظات متتالية من خداع النفس والغير على حد سواء
وسألت أبى مرة أخرى ذات يوم بعيد: أين جدى عبدالله ياأبى؟ ولماذا لم يًُكتب اسمه فى شهادة ميلادى؟
فأجابنى: أنت طفلى الوحيد المحظوظ فى هذه الأسرة كلها..أنت الوحيد دون إخوتك جميعاً الذى يحظى باسم العائلة.. عائلة الغرباوى
ـ ولكن عبدالله..أين عبدالله؟
ـ إنها قصة لطيفة سأرويها لك.. لقد وُلدت يا عزيزى وقت أن كنّا مهجّرين من مدننا التى أصابها القصف.. وأرسلت والدتك إلى العاصمة وهى حامل بك بينما حوصرت أنا فى المدينة.. وعندما فاجأتها آلام المخاض.. قام خالك الطبيب بتوليدها.. وأرسل أحد أصدقائنا ليسجلك بين المواليد.. ولمّا كان الصديق يعرف ان اسمى حسين الغرباوى فقد اسماك هكذا مباشرة ودون تفكير.. محمد حسين الغرباوى
ـ جميلة القصة
لم تعد القصة جميلة.. بل عذاباً أتجرعه عندما ينظر لى موظف فى شك كبير وأنا أقدم ورقاً شائهاً أدرك وحدى إثمه وإثمى فيه.. لكنى تعودت على استدعاء ابتسامات الثقة ونظرات التعالى.. تولّدت بينى وبين كل سائل عن هويتى علاقة شر يجهلها تماماً .. بينما أحياها وحدى..أتنمّر باحثاً عن مخالبى إذا أباح بشكه.. لأقر بسلامة كيانى المتواطىء فى جريمتى حتى النخاع.. ناظراً فى حدة إلى الأوراق مشيراً بإصبع ثائرة إلى صحتها وبيروقراطية الجالس أمامى يحاكمنى.. ويعلو صوتى متشدقاً بشعارات جفت وتشققت وتكسرت أحرفها على صفحات الجرائد.. تشجب وتندد بروتين يحيل حياة المواطنين الشرفاء أمثالى إلى جحيم من الانتظار المهين
لكن الأمر يختلف تماماً هذه المرة..أشعر باليأس يعصف بكل أبجديات دفاعاتى التى توطنت عليها.. لم أجرؤ هذه اللحظة على إدعاءات اعتدتها.. ولم يجعلنى احتفاظى وحيداً بلقب العائلة شامخاً بالقدر المطلوب.. فالعائلة لم تؤازرنى يوماً فى مواجهاتى.. إننى مجرد رجل مًُختلَف على هويته
لعل ما فكرت فيه وأنا ناظر إلى فراغ الأيام أمامى جعل الدموع تطفر من عينى مما حدا بالرجل إلى إنهاء الموقف .. وتزويدى بجواز سفر يحمل اسماً ثلاثياً..يخلو من شوقى..وعبدالله الذى لا يعرف به أحد.. ويحمل هوية مبتورة لمن يُدعى..أنا

_____________________
بقلم : ب. م .
مايو 2007