والحب دوما لا يهدأ بين هذين الطفلين . نفس القصر .. نفس الحديقة .. نفس المروج والتلال التي لعبوا على خضرتها الناضرة .. نفس النهر الذي سبحوا فيه سوية حين الصبا . الحب لا يهدا بين هذين الطفلين في كل وقت .. الفرق الوحيد الذي كان بينهما .. هو السبب وراء موته في سن صغيرة .. والانسان لا يشعر برضا الفراق الا بعد الموت .

ويقتلنا الطوح .. المال .. الشهرة .. الغنى .. السمعة .. الصيت .. وغيرها .. هذا هو مهر تلك الفتاة لتتزوج من خادم فقير في قصر والدها الكبير.
والعار يصيب العائلة الكبيرة .. حين يعلمون بقصة حب جارف تجمع ابنتهم الاميرة .. بخادم من خدم القصر ...
والاخبار السيئة لا تنتظر .. والاشاعات تناثرت .. والكل يتحدث عن تلك الجريمة الشنيعة .. الحب ! الحب الذي لا يعرف عنوان .. ليس له نسب أو عرف .. الحب الذي لا يعترف بالفروق بين الطبقات .. الحب عندهم .. جريمة شنيعة !

والشر لا يرتاح .. لا بد ان نتخلص من العار .. ماذا نفعل .. ماذا نفعل ؟ اسمع مني يا اخي .. اختنا تحب ذلك الخادم الحقير .. ولا نستطيع اقناعها أن تتركه .. عندي خطة .. نخبرها اننا موافقون على ارتباطهما .. ولكن لا بد ان يثبت لنا كفاءته في التجارة والارباح .. ندعي انه سافر الى بلاد بعيدة .. في رحلة تجارية .. ونقتله .. وندفنه في النهر .. ولن يعلم أي مخلوق ..و بالطبع ليست جريمة .. لا بد ان نحافظ على شرف العائلة .. أنت تعلم ان اختك أجمل امرأة في البلاد .. الكل يتمنى ان ينظر الى عينيها .. ملوك .. امراء .. أغنياء الدولة .. الكل .. الكل .. لا نستطيع ان ندعها تقع في حب خادم جشع . . ليست جريمة يا أخي ان نقتله .

وانطلت اللعبة على الجميع .. وغاب الحبيب .. وطال .. طال الانتظار .. والشرفة ملت من سهر الليالي .. والقمر نسى النجوم حين كانت أجمل امراة في العالم تتحدث معه كل ليلة .. عن الحبيب ! القمر كان أنيسها .. النجوم كانت عقدها اللامع .. والليل كان لباسها .. والنوم كان عدوها اللدود .. والصمت .. الصمت كان حديثها . . واجمل امراة في العالم .. أصبحت شاردة .

وأخيرا جاءت رسالة .. ليست في ورقة .. ليست من ساعي البريد .. ليست من الخدم .. ليست من الملوك والامراء ..
جاءتها رسالة وهي نائمة .. وهي تحلم .. كانت تحلم به .. وياله من حلم ..
جاء اليها يبتسم .. عند نهرهما الخالد .. وتحولت الابتسامة الى دمعة .. ونظر حبيبها الى الشجرة .. وقال أنا هنا أنتظرك .. أطلقي حريتي .. أنا مدفون .. أنا ميت .. أنا مدفون هنا .. حرريني !

واستيقظت الاميرة .. والشوق يلعب بها .. والشوق يجعلها تسعى كالمجنونة في الغرفة الصامتة .. والحب الذي لا يهدأ انتفض في عروقها الجافة .. فأعاد اليها النبض من جديد .. تركت القصر وذهبت تجري .. وتجري .. وتجري .. الأمل حافزها .. الشوق سرعتها .. والحب ... الحب كان في تلك اللحظات .. كلمة لا توصف .

وصلت الى الشجرة .. ولكنها لم تجده ينتظر .. بحثت .. ذهبت الى النهر .. وبحثت .. نظرت في المروج وبحثت .. وفي كل مرة .. كانت ابتسامتها .. تختفي مع رحيق الزهور .. لتضفي على النهر رائحة العبير .. وتضفي على قلبها جرح يسيل..

رأت قطعة من ملابسه مدفونة تحت الارض .. اسرعت اليها ووكالقطة التي تبش الارض .. نبشت الرمال التي تحت الشجرة .. وزاد النبض .. و زاد الهذيان .. وارتفعت صرخة ألم .. ثم صرخة عتاب .. ثم صرخة شوق .. ثم السكوت ..

ومن هنا .. سيبدأ الجنون في القصة ...

الحب الذي اعتبره الكل جريمة بشعة .. هو نفس الحب الذي جعلها تخرج جثة حبيبها وتحتضنها .. وتبكي .. جريمة الحب .. هي التي جعلتها تحمل رأس حبيبها بين ذراعيها وتنطلق مسرعة .. الحب هو الذي قادها الى أخذ جمجمة حبيبها وتسعى .

تسللت قصرها تبكي .. تنظر الى جمجمة حبيبها .. وتذرف عليها الدموع .. أحضرت فخارا مستدير الشكل .. وضعت فيه رأس حبيبها .. ودفنتها بالتراب .. وضعت على التراب ماءا .. وزرعت ريحانة ..! وأخفت الأمر عن الجميع .. اعتزلت العالم .. اعتزلت الطعام .. اعتزلت الشراب .. اعتزلت الملوك ..و اعتزلت نفسها .. وجلست كل ليلة تحادث نبتة الريحانة ..وتبكي .

دموعها .. كانت تنهمر على الفخار الذي فيه رأس حبيبها .. دموعها كانت تنهمر على نبتة الريحانة ..

وكأن الريحانة كانت تتغذى على دمعتها .. كانت الريحانة تنمو مع الأيام .. وتزداد جمالا .. واميرتي جمالها كان يزداد شحوبة .. وجسمها لم يعد قادرا على الحراك .. عينيها لم تكن ترى سوى الدمع .. سوى الظلام ! والريحانة كانت تنمو من دموعها ..
وظلت اميرتي تبكي على رأس حبيبها .. وتحادث الريحانة .. وتبكي .. وتبكي .. وتبكي .. والريحانة تنمو .. وتنمو .. وتنمو .

والحب الذي لا يهدأ .. لن يجمعهما الا بعد الموت . كان ذلك قرار الاميرة .. الموت .

وفي ليلة من الليالي .. اختفى بكاء الاميرة .. اختفت النجوم التي كانت عقدها اللامع .. اختفى القمر الذي كان انيسها .. واجتمع طيفها الأبيض مع روح حبيبها الأبدي .. والجريمة البشعة .. أصبحت خالدة في عالم لا يهتم بالمظاهر .. لا يهتم بالمال .. لا يهتم .. بالغنى أو الفقر .. اجتمع الاثنان في مكان لا يهتم الا بالاخلاص !

وظلت الريحانة تنمو .. وتنمو .. وتنمو .. على شرفتها الصامتة .. لتكون رمزا على الحب في زماننا .

الحب مثل الريحانة .. طيب الرائحة