تجلس في ذلك السرير الأبيض وكأنها في جنة النعيم .. تنظر من شرفتها المطلة على حديقة المشفى .. تتمعن خضرة النباتات .. نضرة الأزهار .. وسماء الربيع الصافية .. والجو اللطيف المفعم بنسيم الياسمين .. والكون من حولها مبتسم لفصل الربيع .. الكون من حولها جنة تدعو الى التفاؤل ..
تنظر وتبتسم .. وتصدر تنهيدة راحة .. تتبعها نظرة الى السماء .. ولا تتحرك .!
تلتفت الى الغرفة لتجد العالم الذي رأته من النافذة يتلاشى شيئا فشيئا .. والأمل الذي أبدعه فصل الربيع في قلبها .. قد مات !
تنظر الى الغرفة البيضاء .. لتجد باقة من الزهور بجوارها .. وأنبوب المحلول معلق فوق السرير .. والتلفاز الممل امام عينيها طوال الوقت .. ونسيم الياسمين تحول الى رائحة المشفى المليئة بالمطهرات التي لا تضفي على حاسة الشم لديها أية احساس !
وكانها كانت تعيش في عالم .. مختلف عن العالم الخاجي .. وكأن غرفتها البيضاء فصل من فصول الشتاء القارص .. والربيع يهل في عالم على الجانب الاخر من عالمها !

اسمها جميلة .. في السابعة من العمر .. وجه الملائكة .. وكأنه بياض الثلج العذب .. شقراء .. واسعة العينين ..شعرها الذهبي ينساب على عينيها البنية .. ! وردية الثغر .. والبراءة تسيل على خدها كنهر عذب ..وحين تحرجها أو تداعبها يحمر خدها .. وترى تلك الابتسامة التي لا تقدر على نسيانها أبدا مهما حييت .. حين تنظر اليها تتعاطف معها .. وتأسر النوم من عينيك حين تنام .. انها ملاك يمشي على الأرض ! ملاك لا يستحق العيش في عالمنا المليء بالمشاعر الكاذبة .. لك ان تتخيل كل معاني البراءة وترسمها على ذلك الوجه الملائكي !
من أين أتت ؟ ابنة من ؟ ماذا حدث لها ؟ أين والداها ؟ لا احد يعلم ..!

تشخيص مرضها .. فقدان في الذاكرة .. والمرض الاخر ليس له اسم سوى (( سرطان)) !!

يالسخرية القدر .. لا شيء كامل في الحياة .. لا شيء ! كل هذا الجمال يتوج بمرض خبيث مثل هذا المرض !
......
اليوم تكمل عامها السابع ..اليوم عيد مولدها .. مر على وجودها عندنا عامين .. !
عاملتها وكانها ابنتي .. وماذا لدى عجوز فقير يمسح بلاط المشفى كل ليلة غير الوحدة ؟! كانت أنسي وأنيسي ! والابتسامة التي ترتسم على وجهي .. وحين تنادي اسمي .. كان قلبي ينتفض من البكاء .. لم أشعر يوما بامرأة تنادي على اسمي بمثل تلك الرقة .. وكل هذا الجمال ! عجوز في السبعين من عمره .. لم يسمع من قبل امراة تنادي عليه بكل تلك العذوبة !!!

الحياة قاسية !!

أتريدون دليلا واقعيا عن قسوة الحياة ؟!
تلك الفتاة .. صاحبة الوجه الملائكي .. ستموت غدا !!!
اخر تشخيص لها أعطاها فترة بقاء لمدة ثلاثة اشهر ...!
ماذا كنت ستقعل ؟

طفل في السابعة من العمر .. لا يعلم شيئا عن ماضيه .. عنده فقدان في الذاكرة .. المشفى منزله المستديم .. والمرضى والموتى أصدقاءه .. والأطباء الذين يسعفونه وينجدونه يراهم أعداءه الألداء .. أعداءه الذين ينظرون اليه في وجهه ويقولون له .. ستموت بعد ثلاثة أشهر ! .. لك ان تتخيل شعور تلك الطفلة حين ترى وجه طبيب منهم ..
بالنسبة لها .. هم أشباح الطفولة !
الأشباح الذين كنت تراهم في منامك وانت طفل .. وتصرخ .. ثم يهرع اليك والداك .. ويدفئونك بصدر الحنان .. فتشعر بالأمان !
والأدهى من كل ذلك .. تعلم أنك مريض بداء خبيث يهتك جسدك .. يهدمك من الداخل .. كالعثة !
وكأنك جسد صلب يتاكل من الداخل .. فيصدأ . وكانك ملعب لهذا المرض الخبيث .. يمشي فيك كيف يشاء .. يتكاثر بين احشائك .. يهمس في أذنك .. يخبرك أن موعد موتك قد اقترب .. يجعلك تنظر الى المراة فلا تعلم من انت .. من تكون .. ولم اتيت .. يجعلك دوما تتساءل لم أخترتني انا ؟ لم أنا ؟ يتغذى على قلبك .. يجعلك تفقد كل ذرة ايمان لديك ... وتتساءل لم أنا ؟

ماذا كنت ستفعل .. ؟ لو كنت في مكانها ؟!

أصعب لحظات عمري مرت علي .. حين جاءتني اليوم .. لأقول لها .. كل عام وانت بخير .. اكملتي عامك السابع ..! وأقول في نفسي وغدا يا بنيتي تموتين !!! ..

احتضنتها .. وجلست أبكي .. وأبكي ..فسالتني .. علام البكاء .. الدنيا لا تساوي دمعة من دموعك يا جدي ..!؟
هكذا كانت تناديني .... جدي !
أجبتها .. الدنيا قصيرة جدا يا بنتي .. ليتيني أراك حين تتزوجين ! وتنجبين أطفالا ..
تباغتني وتكسر قلبي حين تقول:
سأنجب ولدا وأسميه جدي .. وأنجب طفلة .. وأسميها جدتي ! حتى لا تبكي يا جدي !

أبتسم وامسح دمعتي .. وأحتضنها .. أضعها في فراشها .. أنظر في عينيها .. وأبكي من جديد ...

ليتها تعلم أن اليوم هو اخر أيامها في حياتنا الكئيبة ! كيف أخبر طفلة مثلها خبرا كهذا ؟كيف اخبرها أنها ستوت غدا .. كيف أعلمها امور القدر ؟ كيف اعلمها الرضى ؟! .. كل ما استطعت فعله اني أخبرتها قصة قبل أن تنام !
اخبرتها عن مكان بعيد .. بعيد عن الدنيا التي عاشت فيها .. يوجد به الكثير من الحلوى .. والعصائر .. والألعاب .. وبه نهر من عسل .. ونهر من حليب ..والفواكه التي كانت فيه حجمها مثل حجم رأسها الكبير .. أخبرتها ان اجمل ما في ذلك المكان .. انه لا يوجد به اطباء ! لا يوجد فيه دواء له وقت محدد .. لا يوجد فيه عمليات جراحية .. لا يوجد فيه دموع .. ولا خوف .. ولا أحزان .. عالم يملؤه الأمان .
أطفال يلعبون .. حرية مطلقة .. وربيع دائم .. ورائحة الياسمين .. وزهور متفتحة نضرة .. فيها كل ما يتمناه المرء !

ولا أدري .. لم سألتها هذا السؤال .. ولكني شعرت أنه لو كان لها امنية قبل ان تموت .. لحققتها لها مهما كان الأمر .. ومهما كان السبب !! وماهما كانت النتيجة !!

سالتها :
ماذا تتمنين ؟.. اطلبي أي شيء وسأحققه لكي يا جميلة !
قالت :
أريدك أن تاتي معي الى هذا المكان يا جدي !

أخبرتها والدمع يسيل من عيني .. وجسمي أصابته رعشرة باردة .. حسنا يا جميلة .. غدا نذهب معا ...!!!

وقبلتها على رأسها .. وقلت لها نذهب غدا يا جميلة .. تصبحين على خير ..!

تركت الغرفة .. قدماي لم تعد تحملاني من الحزن .. وجسدي انهكه التعب .. أثقلته الهموم .. لم اكن أتخيل حياتي بدون جميلة !

ذهبت الى غرفتي الصغيرة .. اخرجت قلما وورقة .. وكتبت الرسالة التي بين أيديكم .. الرسالة التي تقرأوها الان .. قصة جميلة .. التي كان عيد مولدها اليوم .. ووفاتها في الغد .. فكرت كثيرا .. لو كانت رغبتها قبل ان تموت في الغد .. ان تأخذني معها الى الجنة .. فليكن .. مهما كانت النتيجة .. ومهما كانت العواقب .. هذا هو الشيء الوحيد الذي طلبته من الحياة . وعلى كل حال .. انا رجل عجوز .. فقير .. الحياة لن تتوقف عند مماتي .. أما حياتي أنا فستتوقف عند جميلة ..

هذه رسالتي أضعها بين أيديكم .. لكي تعلموا .. أن الحب لا حدود له .. لا عقد .. لا حسابات ولا براهين ..
الحياة ان لم يكن يملأها الأمل .. ان لم يكن فيها شمعة تنير الابتسامة على وجوهكم .. فلا قيمة لكم فيها .. ولا قيمة لها لكم .
جميلة قد كنتي .. ابستامتي التي أضعها على وجهي .. والعيش بدونك .. موت بطيء!
شكرا .. لأنك كنت السبب في بسمتي ! أراك على باب الجنة ..!
وليتغمدني الله برحمة منه !

***********************


-أمي ... هل كان جدك يحبك كل هذا الحب ؟
-نعم .. وأكثر ! لولاه ما كنت باقية على قيد الحياة حتى الان !!
-كيف وقد كانت وفاتك .. في اليوم التالي لعيد ميلادك السابع ؟
-لا أحد يكتب القدر ويقرأه الا الله يا بني ...كما أنه عندما كان يخبرني قصة الجنة .. واخبرته أن يأتي معي .. كان مقصدي أن ينتظرني لأصبح في مثل سنه العجوز .. لنذهب معا .. لا ان يذهب معي وانا طفلة .. هذا ما عشت لأجله .. هذا ما تعلمته وانا صغيره .. الأمل والأيمان يصنعان المعجزات .. كلامه جعل من حياتي جنة خالدة .. وابتسامته التي كانت ترتسم عليه حين يرى وجهي ..كانت سببا في سعادتي الابدية !
-وكيف مات يا أمي .. وكيف وجدتي تلك الرسالة ؟
-في اليوم التالي .. دخل عليه الطبيب المناوب .. ووجده يبكي وهو ساجد يناجي ربه أن يقبض روحه .. حتى مات على تلك الحالة .. ووجد الرسالة على سريره !
-أمي .. هل لا زلت تحلمين به .. ؟
-بل أكثر .. من يدري لعله يراقبنا الان ونحن نقرأ رسالته .. هيا اخلد الى النوم .. كفاك اسئلة .! تصبح على خير .