الجزء الخامس ـ الفصل 3
خَرَجَ موسى مِن مِصْرَ إِلَى مَدْيَن،
نَجَا مِنْ حَتْفٍ بِهِ أُدِين،
حَامِلٌ صَبْرًا بِنُورِ اليَقِينِ،
سَكَنَ بَيْتَ شُعَيْبَ صِهْرًا،
جَزَاءً لِوَفَائِهِ، فَرَعَى غَنَمًا.
رحلة صحراء ونور تعبر صمت الرمال.
اكتملتْ فيه صفاتُ النبيِّ،
فكَلَّمَهُ اللهُ وَحْيًا جَلِيًّا،
وَهَبَهُ العَصَا نِعْمَةً بَيِّنَةً،
حَيَّةً في الأعداءِ نِقْمَةً،
وَيَدًا بَيْضاءَ تَشِعُّ آيَةً،
لِقُلُوبٍ إن آمَنَتْ هُدًى ورَحْمَةً.
الوحي ينير الطريق، والآيات تتجلّى.
فكانَ موسى النبيَّ كَلِيمَ اللهِ،
عادَ إلى مصرَ حاملًا رسالةَ السَّماءِ،
ليُبَلِّغَها، ومعه هارونُ رفيقًا،
وكانَ شقيقًا، نبيًّا فصيحَ اللِّسانِ،
صَدُوقَ البيانِ، رفيقَ الأمانِ،
مطيعًا بأمرِ اللهِ، تصديقًا.
قال تعالى:
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}
(القصص: 34)
وكانت الأخوة عونا في السبيل....
بدأ النبيّانِ دعوةَ التوحيدِ،
لِقومٍ كَفَروا، كانوا عبيدًا،
لفرعونَ، بقبضةٍ من حديدٍ،
فما لقُوا طاعةً، ولا تأييدًا،
وفرعونُ ما انفكَّ عنيدًا.
ادّعى الألوهيةَ والخلدَ،
وبطشَ بمن خانوا العهدَ،
فكان لموسى البينةَ والوعدَ،
وأراهُ الإلهُ سبيلَ الردِّ.
ناظره فرعونُ والقومُ عيانًا،
بسحرةٍ وآياتِ اللهِ بُرهان،
فكانت العصا نقيضَ السحرِ وإيمان،
وتجلّت يدُهُ بيضاءَ للناظرين،
فسجدوا للهِ ربِّ العالمين.
قال تعالى:
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ۞ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ}
(الأعراف: 117–119)
لا يُفلِحُ السَّاحِرُ حيثُ أتى، فسقط الباطل أمام آياتِ السَّماء
آمنَ من القومِ فريقٌ قليل،
ومن آلِ فرعونَ مَن صدّقَ السبيل،
كتموا إيمانَهم، والصبرُ جميل،
من فرعونَ الجبّارِ، ذي القلبِ الضليل.
وزادَ فرعونُ كفرًا وعنادًا،
رأى الآياتِ، فلم يزد إلا جحودًا،
كأنّ قلبَهُ بالشّكِّ خُتمَ قيودًا،
توعّدَ موسى، ومَن تبِعَهُ اضطهادًا،
إما سجنًا، أو قتلاً عمدًا.
قلب الجبار أقفل، كمن يسدل الستار على الرجاء
جاء مؤمنٌ من آل فرعونَ، استنكر،
نيّةَ الغدرِ، ولقومهِ أنذر،
رجعَ ذو الأوتادِ عن الأمر، وما فتر،
فبَطَشَ بالقومِ، وفي غيّه استمر.
ورد في كتاب الله:
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ؟ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}
(غافر: 28)
حين يعلو صوت الحق، لا يغيب الصادقون
خرجَ موسى بقومِه مُرتحِلاً،
ليلًا، بأمرِ الإلهِ، لا يخافُ العدى،
خلفَهُ الكفرُ، وعن الظلمِ راحلًا،
وفرعونُ مصرَ، ونارُ الأذى،
أدركهمُ فرعونُ، والمستقرُّ ساحلًا،
بجيشٍ، وصهيلِ خيلٍ يشقُّ المدى.
فرعونُ خلفَهمُ، وأمامَهمُ يَمًّا،
برٌّ لا نجاةَ فيه، وبحرٌ ما طغى،
ألهمَ اللهُ موسى رميَ العصا،
فانفلقَ الموجُ، وظهرَ السبيلُ المبتغى.
قال تعالى:
{فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ، فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
(الشعراء: 63)
حين يعجز العقل تتكلم المعجزة ويفتح البحر طريقًا.
ولم يُمسَّ قومُ موسى بأذى،
غارَ الطغاةُ في ظلماتِ الخِضْمِ،
غرقَ فرعونُ في عميقِ الماء،
وغاصَ معهُ مَن رافقَ العداء،
جزاءً لمن كفر، ولم يُسلِم.
قال تعالى:
{فَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَهُمْ ظَالِمُونَ}
(القصص: 40)
النصر حق، والعدل ينبثق من ظلمات الجور.
يتبع.....