قراءة في نص يا بعضي الكثير
النثرية الأجمل
للناثرة المبدعة : رنا أسعد
النص :
توجتك يوم ملّكتك حشاشة كبدي أميراً على زهيرات بقائي ...
فأينَعت أيامي بك، وتعطّرت ساعاتي بوجودك تنمو وتكبر ،
وتدرجت خطواتك على سهولٍ عشقناها معاً، وكانت لنا السكينة والأمل..
هل تذكر كيف كنا ننسج الحكايات ونطرّزها فصول ذكريات وتخاريف؟
ونلوّنها بأحلام سرعان ما أدركناها مزيّفة لن تتحقق.
فالحياة لها تصاريفها، ولها مفاصل تغرقنا بفصول وهم،
فلا ترحل...
ولأنك أنت ريشة بقائي، رسمتك قمراً يضيء لياليّ، وزرعت بأوتار اسمك صبوة أحلامي، فكنت في خميلة العمر ببهائها أتعطر.
كيف تجرؤ على اقتراف البعد وقد تعاهدنا أمام تتابع الأيام أن نبقى معاً... تضمّك روحي بجناحيها ، فنرفرف غرّيدين في فضاء يحميك من نائبات الدهر، ويعطيني من نبض شريانك ترياقاً يحببني بمواصلة الحياة.
يا بعضي..
هل تراني أستجديك بقاءً..؟
هل بحت لك بأن بعدك عني يضني روحي ألماً، ويفتت كل خليّة لك تمازجنا فيها حتى حدود الروح؟.
إن غبت عني، فأنا بعدك بقايا أرض يابسة تنتظر إطلالة نسمات تأتيها بنبأ عنك من البعيد ، ليهطل على أطلالها غيثاً يحييها، فهل تراها تورق أملاً بلقاء..؟
ما بال الكلمات تعثّرت وابتليت بالجفاف، وبحّة الناي غدت سكرى..
فلا أوصلت لي من الحزن نغماً، ولا نبضت لحناً على أنين وتر..
بهت بريق النجوم، وأثقلت السماء بمزن لا تمطر، وغدوتُ عيوناً لا تبصر، فلا رحمت القسوة أيامي، ولا اشتبكت أوراقي بجوى المعاني..
وإن كان لا بد من الرحيل ... فلا تتأخر...
النوارس لا تفارق شواطئها.. تحلق بعيدا عن أعشاشها. تغفو في رحلاتها اليومية قريباً من صفحة الماء، توشوش الموجات بأهزوجة فرح الإقامة، فتهدهد سكون البحر في أمسيات الشوق والحنين، ثم لا بد تعود إلى أعشاشها.
إذا كانت الغربة نافذة تطلّ منها على شمس عالمك المأمول، فهي قاسية على روحي.. مشرعة لقتلي، وأنا من رسمتك مرآةً لذاتي، وكنت حلمي الدافئ، وفي صحوتي رفيق دربي وأنيس غربتي.
أينعت كلماتك على عتمة قلبي تداعب جدائل الأمل. فخفقت روحي تداري ما بي وأنت بها أدرى..
أتوارى من عينيك إلى ركن أشق فيه صمت لوعتي من فراقك.. فلا ترحل...
يا قلبي المتعب من تكرار الرحيل ومتاهات الضياع، هل اقتربت مواسم الفناء..؟
كلما خالطتني تلك المشاعر، أرى وجه القمر في تفاصيل وجهك، ترسم طيوف ابتسامة تمازحني.. تضحكني.. تشاكسني ... فأشكو لك عليك ... ومنك أتذمر.
العمر ينقضي سريعاً كومضة برق، وسريعاً ما تتبخّر قطرات الندى عن أجنحة الورد، فلا تبخل عليّ بلمسة توقظني من غفوة الصمت، كي أبقى مزهرةً بكَ رغم هدير العواصف، فقد علّمتني الأيام كيف أنحني ولا أتكسّر.!
إن كنت قمراً سراجاً يضيء أسحار المحبين، فأرضي يا أمنيتي، ما زالت تضيء ببراءة طفل، وبريق عينيه في موطن أمانه.
يا بعضي الكثير..
أرجوك بصمتي المكلوم أن لا تملّ من جنون كلماتي، ولا تلتفت لرجائي، ولا تدع رغبتي بامتلاكك تقصيك عن مواصلة حلمك ... فأنا أمّ إن غادرها رفيق الفؤاد تحزن، وإن وخزته شوكة ألم تتحسر...
أرجوك لا تتأخر...
(توجتك أميراً )
هذه الحالة التي تبدأ بها رنا أسعد نثريتها المبدعة
تتوجه بالكلام بصيغة المخاطب وبفعل ماض الى أميرها الذي لم ندرك من هو بعد
توجتك أميراً فمتى حدث هذا ؟ وأين .؟ والاجابة قادمة عبر سطور النص :
(حين ملكتك حشاشة كبدي ،أميراً على زهيرات بقائي)
وكلمة حشاشة تعني المتحضر الذي فيه بقية من روح ، أو هي القلب
ولعل في استخدامها دليل على معاناة واقتراب الأجل خاصة حين نتحدث عن زهيرات البقاء
واستخدام كلمة زهيرات وليس زهرات ، بالتصغير يدل على أن البقاء أصبحت فرصه أقل
ونستمر في هذا النثر الراقي
وكنتيجة لتملك هذا الأمير لقلب هذه المتحدثة أن أينعت أيامها ، وتعطرت ساعاتها ،
وهذه الجملة حقيقة حيرتني
(وتعطرت ساعاتي بوجودك تنمو وتكبر )
فلو كان المقصود / تعطرت ساعاتي بوجودك لما كان من فائدة للكلمات التالية ، تنمو وتكبر
ولو كان المقصود تعطرت ساعاتي ثم بوجودك تنمو وتكبر ، لكان لزاماً وجود الفاصلة بعد كلمة ساعاتي
ولعله سهو لا أكثر أما استخدام كلمة : تدرجت خطواتك فقد جاءت للدلالة أن هذا الأمير تعلم الحب معها وكانت هي تجربته الأولى
فلم يأتها مجرباً وانما تدرج معها في العشق والأمل ثم تبدأ المتحدثة في التساؤل
هل تذكر ؟
كيف كنا ننسج الحكايات ونطرزها ، ونلونها بأحلام
وهي هنا تسأل وتجيب
حين تقول سرعان ما أدركناها مزيفة ، وتتوغل أكثر في النتيجة حين تفسر أكثر
فالحياة لها تصاريفها ، ولها مفاصل تغرقنا بفصول وهم
الفاصلة بعد كلمة وهم أيضاً غير مبررة
ثم رجاء : فلا ترحل
كنت أرجو أن تبدأ الجملة بدون الواو : ولأنك أنت ريشة بقائي
بدون الواو كانت الجملة ستكون اجابة للرجاء بعدم الرحيل
لأنه هو ريشة البقاء ولأنه ريشة بقائها رسمته قمراً يضيء لياليها وزرعته بأوتار اسمه صبوة أحلامها
مع التعبيرات الجميلة واللغة الثرية تحلق بنا الناثرة أكثر :
فكانت في خميلة العمر ببهائها تتعطر
يستمر النص بين الفرضيات والتساؤلات
ومع تساؤل آخر :
كيف تجرؤ ؟ وهو سؤال استنكاري ، جاء في لحظة غضب يحول مسار النص ، من حالة الحب والعشق ، الى حالة الابتعاد والخلاف
كيف تجرؤ على اقتراف البعد ، واستخدام كلمة اقتراف التي تقترن دائماً بالجرم هو دلالة على اعتبارها البعد جريمة بحد ذاتها
يا بعضي ..
لماذا استخدمت الكاتبة هذه الكلمة بالذات ولم تقل يا كلي
هي تعتبره بعضاً منها هل تريد أن تقول له ؟أنت لست كل شيء ولن تكون كل شيء ولن أموت بعدك
أم تريد أن تقول له : أنت جزء مني ، جزء من جسدي وروحي ، جزء من كياني وحياتي ، جزء ولد صغيراً لكنه يكبر كل يوم
تساؤلات كثيرة يطرها النص
وتطرحها كاتبة النص :
هل تراني أستجديك بقاءٍ ؟
هل بحت لك ؟
ثم تبدا الكاتبة في التحول من حالة الغضب الى حالة استجداء ومعاتبة حين تصف له حالتها دونه
ان غبت عني -فأنا بعدك بقايا أرض يابسة - بهت بريق النجوم - أثقلت السماء ولا تمطر - عيوناً لا تبصر
ثم تستجدي مرة أرى استجداء يائس :
فان كان لابد من الرحيل .. فلا تتأخر
وتقارن بين الغربة بالنسبة له وبالنسبة لها فهي ان كانت نافذة له على شمس عالم يتمناه
فهي بالنسبة لها نافذة مشرعة للقتل ، قاسية على روحها والكاتبة هنا في حالة متذبذة
من الغضب والحزن والرغبة والرجاء
لتعود بنا مرة أخرى ، تصف ما كان يعني لها "رسمتك مرآة لروحي-حلمي الدافئ - رفيق دربي - أنيس غربتي -أينعت كلماتك
وتعود الى حالة الرجاء ذاتها : فلا ترحل
ويختلط العتاب بالرجاء والتساؤل حين تقول :
هل اقتربت مواسم الفناء ؟ وتعود بذاكرتها ، لتتذكر تفاصيل وجهه حين ترى وجه القمر فتربط بذلك بينه وبين القمر
تتذكر ابتسامته وما تفعل بها ، تمازحها وتضحكها وتشاكسها
فأشكو لك عليك / وأعتقد أنها قصدت / وأشكو لك منك ومنك أتذمر
في الجملة التالية وجدت خللاً ما : ( يضيئ أسحار المحبين ، فأرضي يا أمنيتي )
هي تقصد أرضها وتخاطبه هو بكلمة أمنيتي ، لكن وصفه بوصف مؤنت
أمنيتي جاء ثقيلاً وجعلني أتوقف عندها
تقول له : أرضي تضيء ببراءة طفل وبريق عينيه ، لا داعي للفاصلة هنا
هنا يتغير الخطاب مرة أخرى كما تتغير حالتها النفسية وتتقلب بسرعة
يا بعضي الكثير
وكأنها تزيد من جرعة اهتمامها به واحساسها بما يعني لها
ترجوه أن لا يمل من هذه الكلمات وأن لا يلتفت لرجائها
ولا يسمح لرغبتها بامتلاكه تقصيه عن مواصلة الحلم
وهي هنا وكأنها قاصة ماهرة رغم نثرية النص تأتي لنا بنهاية مباغتة حين تفسر طبيعة هذه العلاقة
فهي هنا تشرح لنا كثيراً مما خفي عنا في بدايات النص
وتقودنا الى معرفة هذا الحب الطاهر العفيف أكثر لنعرف ونكتشف أن هذا حب أم لولدها
وأن هذا الحب هو الحائل بينه وبين حلمه الذي يطارده
ليس الحب ذاته وانما رغبة التملك التي يولدها الحب والتي تحاربها هذه الأم في ذاتها
وهو ما ولد الخطاب المتغير عبر سطور النص عبر مشاعر متضاربة
بين الحب والرغبة في التملك وبقاءه في حضنها وبين رغبتها في رؤية السعادة على وجهه وهو يقترب من حلمه
هذا الحلم قد يكون عملاً يتمناه أو دراسة يرغب بها أو مشروع يريد تنفيذه
لا يهم المهم أنه حلم وحسب
والرجاء الأخير يعني أنها حسمت الأمر أخيراً
ارحل واتركني
ولكن أرجوك
لا تتأخر
النص كان ماتعاً منساباً واللغة جميلة والصور الشعرية رائعة
استطاعت الكاتبة أن تقودنا الى الانسجام في السطور ، والتأثر بالحالة النفسية
والمزاجية المتقلبة لها ، لنفهم أخيراً سببها في الحيرة بين الحب بمعنييه
الحب برغبة التملك والحب المجرد المقترن بتضحية
عمل قدير ويستحق ولا شك هذا الاهتمام والتقدير وأكثر
أحييك أ رنا
خالص الود