بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم

نصّ قديـم لي، لكنّـه قريبٌ إلى قلبي كثيراً. أُطِلّ معـهُ وبـِهِ على الأوبَـة والتوبـَة إلى ربّي. ـحببتُ أنْ أهديـه إلى كلّ أحبّتي، وإلى كلّ روحٍ تشتاقُ إلى الأوبـة إلى اللـه .
أسألـهُ سبحانَـه أنْ يغفرَ لي كلَّ حرفٍ كتبتُه في غير رضَاه، وأن يقبلَني ويثبّتني على طاعتـه .
أحبّـكَ ربّـي



دخل الليلُ ديارَ الأحبــة، يجرّ ثوبه الموشّى بنجيمات هاربة من ضوئها، كانَ الشّارعُ كلُّـه يرقُد بين جفون الحلم,. وكنتُ وحدي، جالسةً بشُرفتي أَرقبُ إطلالةَ الَقمَـر، كنْتُ أنتظره والشَّوْق يهزُّني إلَى حبيبي.
السّاعةُ قد تجاوزَت الواحدةَ بعدً ُمنتصف القلْب، والصّمتُ قدْ وقَفَ بمنصَّة الذاكرَةِ يقرَأُ قصيدَه الذي بدأَ كتابتَه منذ ألف حزن تقريبا.. ودقاتُ قلبي تكاد تطير إلى محطّةِ اللقاء، لتستقبلَ نسيمَ الهوى القادمِ مِن هناك، مِن أقْصَى مدارِجِ الكَوْن..
أين غابَ القمَـرُ؟ لقد تعوّدتُ أن يُهديني كلّما أطلّ طاقاتٍ من الثُريّا ومِن رحيقِ الضّوء، وتعوّدتُ أن أُسمِعه - وهو يَقرأ عَليّ من كتابِ الرُّوح كلَّ ماأرسلتْـهُ إليه النجْماتُ في طوْق الحَمامة، مِن هدايا عِيدِ الأمَّهات، وعَطَايا أعْيَادِ المَحَبّة.

ومرّت الدّقَائق والسّاعاتُ، وأنا أنتظر إطلالتَـه، فحانت مني التفاتةٌ إلى ساعَةِ البْيت المعلّقة على الجِدَار، ماصدّقتُ نفسي حينَ كانت عقاربها تتثاءبُ هي الأخرى، وهي تشير بأصابعِها إلى الثانيةِ بعد مُنتصَف القَلب.!
واستسلمْتُ لأحاديثِ شُجيْرةِ الرمّان التي كانتْ تنثُرُ بينَ يديَّ ماءَ شؤونهَا، وهديلَ أسرارِها، حتّى سقَطَ في قلبِي ضوءٌ، كحباّت الرمان تلك، ضوءٌ حملنِي إلى هُناك : إلى حيثُ الأحلام ترتدي ثوبَ الورد، وتكتحل بقطيْراتِ النّدى، إلى حيث البسمات تشتعلُ، والقلوبُ تحلّـق، وهي تقشّر الأحزانَ، وتقبسُ من وجهِ الحُبّ المُضاء حفنةً من الرّحِيق ..إلى حيث حبيبي، إلى حيث مناجاتهُ لاتحلو إلا ليـْلاً..
جلستُ أتأمل القمَرَ الذي جاء أخيرًا بإطلالَة عَنبر، وقدْ مضَى يقرَأُ عليّ تفاصيلَ رحلةِ رُوحَينا الجًديدة، فَحملني كالرّيشَةِ بعد أن طرّزَني بالخزامى . ومضيتُ، وقلبي يكاد يرقصُ طرَبًا وخوفًا في الوقتِ ذاتِه، وتاهتِ الكلماتُ منّي إلا كلمةً واحدةً، اشتعلتْ على لساني، وخرجتْ بها نبضاتُ الرّوح منَ الجَهْر إلى الهَمْس، ومنَ الهمْسِ إلى الجهْر، وكأنها تعلنُها ثورةً حُبلى على الجِراح كلها: ياحبيبي.. ياحبيبي.. ياحبيبي ! ضجّت الرُّوح بعطرِ الحُب، وبشوق الّلقاء، كما ضجَّ صمتُ الليلِ بصوْتي، وقد غطّى بُرودةَ الجفْنِ والقلْبِ..!

وظلتْ شُجيرة الرّمّان ترقبني، وقد اغرورقَتْ بعيونها حبّاتُ المَطَر، تكبُرُ وتترعرعُ، حتى سقتْ ذاكرتَيْنا معًا، ومضتْ يمامتي البيْضاءُ تتطّلعُ برأسِهَا الصّغِير نحوَ السّماء، وكأنّها تنتظرُ هي الأخْرَى شيئاً قادِماً من هنَاك. أمّا أنا، فقدِ احتَبسَت الكلماتُ في حلْقِي وغصّت الرّوحُ ببكاءِ السّحاب، وتعلّقَت عينايَ بضوءِ القمَر، كما تعلقت مناجاتي بضوء القلب.
بقيتُ كاليَمامة البْيضَاء، أُحدّقُ مثلَها بالسّماء وأصرخ ملءَ فيّ: ياحبيبي، ياحبيبي، ياحبيبي، يامَن أحنّ شوقا إلى لُقياه، وأذوب شوقًا لرضاه، وأفيضُ شوقا لعفوه ورحمتـه. ياحبيبي، يامن أحبُّـه حبّين، طمعا بجنانِه، وخوفا من عذابه، وأحبه لأنه أهلٌ لهذا الحبّ.

ياحبيبي، قد سكَنَ يَـراعُ الأكوَان، واشتعلَت ثورَةُ الأحزان، وتفتّق نَوْرُ الزّهر الرّاحل عن شجَره، وذبلَ الصّباحُ وتساقطت بتلاته من عنقود الرّوح، فهلاّ تلقّيتَني ياحبيبي ؟ هلاّ فتحتَ لي قصرَ حُبّـكَ، وأمطرَتني بقطْـر رُحماك، وسقَيتَني من فيْض حنانك ؟ ياحبيبي، يارجائي حين ينقطع الرّجَاء، وياقِبلتي حين ترتحل الأفياء،وياملاذي حين يسكنني الشّتاء . هذي دُمُوعُ الحُبّ تُسْقِطُني من أفنانِـي، وهذه رعشةُ الخوفِ تحفرنِي بدفاتر الرّجَاء، وهذه بسمَةُ الرّجاء تُهرِقُنـي بكتبِ الرّحمـة.
قد فارقتُ صيفًا تعتّق علًى كتِفِي ، وخريفًا تسلّقَ ذاكرتِي ، وشتاءً علّقني بشجر الرّحيل. فارقتُني لألقاك، وأهرقتُني لأكونَ وإيّاك، وأبعَدتُني لتهجرَني سحائبُ الجِراح كلها، ولتنفيني ديارُ النّوى كلها ولاتلقاني، لأنني ألقــاكَ .!
بقلبِي مفتاحٌ وحيدٌ لأبواب مناجاتكَ، لاأملك إلاّه، قد اختزلتْ روحي فيه كلَّ أشيائها وحكايَاها وقصيدَ آلامها، قد جمعتْ لك فيه طاقاتِ الشّوق والُمنَى، وضمّختْه بلغاتِ القلب والوردِ معاً..":
" حبيبــي !"...