لازمتنى منذ ست وثلاثين عاماً. استقرت فى الجيب الخلفي لبنطالي ... هى شاهدة على سنوات وظيفتى التى مرت كالطيف ..

عاصرت آلامى الكثيرة وابتساماتى النادرة ... لوقُدّر لها أن تتكلم لقالت مايستحى من قوله اللسان ... فالذكريات منفرة

جارحة ...

أذكر يوم أن ابتعتها من بائع متجول فى قطار السادسة صباحاً ...كانت سوداء لامعة .. فتحتها وبعناية رتبت بداخلها

اوراقي المالية القليلة .. كما حشرت بطاقتى الشخصية .. ثم دسست بين طياتها صورة ملونة لأنثى عارية اقتطعتها من

مجلة لبنانية مشهورة أطفىء بها نار شهوتى المتأججة ..

وها أنا فى صباح اليوم الأول من إحالتى إلى المعاش .. لسبب ما ارتديت ملابسى .. ثم اتجهت صوب الباب الخارجى ..

إلى أين سأذهب ..؟! تسمّرت ممسكاً بمقبض الباب ...رنوت إلى الساعة المعلقة على الحائط .. نفس الموعد اليومى ..

ثم نظرت نحو المرآة المثبتة بجوار الباب .. بحلقت فى وجهى .. ثمة خطوط رقيقة تنبثق من تحت الجفنيين هابطة فى

خطوط متعرجة نحو الرقبة التى تهدل جزء منها .. بينما الشعيرات البيضاء تغزو الفوديين بكثافة ملحوظة .. فتحت عينى

أمام المرآة واغلقتهما أكثر من مرة وكأنى غير مصدق بأن الماثل أمامى ليس إلا أنا بشحمه ولحمه.. استدرت عائدا إلى

الحجرة الداخلية عبر ردهة طويلة ...ثم رحت اقطعهما ذهاباً وإيابا .. هاهى الوحدة تحتوينى بقبضتها الموحشة وفراغها

الهالك وسكونها العميق ... فتحت النافذة ..رفعت ناظرى إلى السماء .. كانت السحب المتفاوتة الالوان دانية وتركض

بسرعة والهواء يهب فى دفقات منعشة .. استنشقت نفساً عميقاً ومع ذلك شعرت بشىء ما جاثماً فوق صدرى ... اريد

أن اتكلم ... أن اصرخ .. أن أتنفس بكلمة أتبادلها مع أحد ...أن أمارس سلطاتى وجبروتى .. أن أزعق فى الساعى وأنا

استحثه على طلب القهوة الصباحية ..أن انهر الموظفيين من حولى .. أن ابحلق فى مؤخرة السكرتيرة وهى تستدير أمامى

بجسدها اللدن الممشوق ...

جلست متهالكا على المقعد ...وبدون ارادة منى .. أخرجتها من جيبى ووضعتها على منضدة بجوارى .. حينئذ خال إلى

أنها تنظر ناحيتى بشماتة ..ثم أتى صوتها رفيعا :