كانت السماء صافية والجو ممتع ولطيف، عليل خفيفٌ يتدفق ويبعث على الأفئدة البهجة والسرور، الشمس قد أطفأت شيئاً من وهجها ومالت ناحية الغرب وهي على استعداد تام للولوج بعد ساعة في مكمنها بالأفق البعيد، قليلٌ من الصبيان والفتيات يتخذون من الممشى الرياضي جيئة وذهاباً وقد دب في أوصالهم الحيوية والنشاط، أصوات طيور البحر ونعيق الغربان ممزوجة بقهقهات يطلقها الأطفال الصغار وهم يلعبون..

لمحته جالساً بمفرده على كرسي خشبي مثبت وطويل، يترك فمه نصف مفتوحٍ كطائر العقاب وعيناه الشهلاوتان الواسعتان يلقي بهما في الفضاء البعيد. كان يلبس بنطالاً أسود وفانيلة صفراء ويضع رجله اليسرى فوق اليمنى ويحركهما للأمام والخلف، ويده اليمنى الملفوفة بعصابة بيضاء تعبث بخصلات شعره الأسود الكثيف. انتفض من مكانه كالملسوع وأشاح بعيداً بكرة الأطفال التي استقرت بجواره وهو يطلق شلالاً من الصراخ ثم عاد وهو يضغط على لسانه بأسنانه وجلس مكانه من جديد..

ألقيت التحية عليه وجلست بجواره بعد أن أكملت الدورة الثالثة من المشي..

- سلامات يا ( عماد )، هل يدك الآن بخير ؟

- ألم اليد أهون من الألم الداخلي الذي أعانيه.

- ما الذي حصل لك بالضبط ؟

- لقد حطمت وجه زميل لي في العمل بقبضة يدي هذه وأسقطت من فمه ثلاثة أسنان. قال هذه العبارة وهو يضغط بقبضة يده ويفردها عدة مرات فتحركت عضلات يده وبانت منها عروق نافرة بارزة كأنها شبكة أسلاك ثم استطرد:
لم أتمالك أعصابي عندما أبدى هذا المعتوه سعادته بخسارتي فعاجلته بضربة أو ضربتين.

- هل صحيح أنك فُصلت من العمل ؟

- لا، بل تم إيقافي، ولي جلسة في المحكمة بعد أسبوع.

- ألست نادماً على ما حصل ؟

- لا لست نادماً، ولو تهيأت لي الفرصة مرة أخرى لأجهزت على باقي أسنانه.

ران الصمت لدقيقة ثم بدده ( عماد ) بقوله:

لقد خسرناها في طرفة عين، لقد انتظرناها طويلاً ثم طارت من يدنا، كل الأجواء كانت مهيأة للحصول عليها، لا أدري ما حصل، لا أدري كيف سارت الأمور بتلك الطريقة، فقدنا كل شيء في غضون خمس دقائق، هذا شيء مستحيل، لقد عشت ليلتها في قلق شديد، وضاق مجرى تنفسي وكأنما أنشوطة لفت حول عنقي، لا أصدق ما حصل، كأني أعيش لهذه اللحظة في كابوسٍ مزعج أريد الإفاقة منه.

كابدت جاهداً لطمس ابتسامة حتى انفجرت مقهقهاً فرمقني بطرف عينيه وقد تجعّد جبينه..

- هون عليك يا ( عماد )، فأنا بحاجة لأسناني، ثم استطردت:

- إن الخسارة يا صاحبي هي خسارة العمر. إن الخسارة التي تتحدث عنها لا تساوي شيئاً بالمقارنة مع ما يحدث لإخواننا في قطاع غزة من قتل وتشريد وترويع. أكثر من ١٥٠ شهيداً لحد اليوم وعشرات الجرحى هي حصيلة العدوان الإسرائيلي الغاشم والأرقام مرشحة في الازدياد..

أسند ظهره للوراء ثم قال:

- أنت تعرف جيداً بأني لا أحب المجال السياسي ولا أتابعه ولا أفقه فيه شيئا..

اقتربت الكرة منا وكان أحد الأطفال متردداً في الاقتراب وأخذها، دفعت له الكرة بيدي في لطف وأنا أرسم على شفتيّ ابتسامة ثم واصلت الحديث:

- إن ضياع هذا الحلم يا ( عماد ) وتواريه لا يعني نهاية المطاف، يجب أن تسير الحياة بشكلٍ طبيعيٍ ولا يؤثر ولا ينكد فيها مثل هذه الأمور، وإلا أصبحت حياتنا صعبة ومعقدة ولا معنى لها، قد يخذلك الحظ هذا اليوم ولكن ربما يبتسم لك في قابل الأيام. يجب أن تتقبل الخسارة يا صديقي بصدر رحب وبروحٍ رياضية مثلما تتقبل الربح..

ندت من شفتيه ابتسامة صفراء لأول مرة منذ أن دار بيننا الحوار، مال بظهره للأسفل والتقط حجراً صغيراً بيده اليسرى وألقى به في البحر بعد أن انتصب بجذعه ثم عقّب:

نتمنى أن نتخطى آثار الخسارة الكاسحة التي تلقيناها ونحفظ ماء الوجه، ونفوز هذه الليلة على المنتخب الهولندي وننتزع المركز الثالث على أقل تقدير..