فُتح الباب ودخل مرتبكاً فسألته الجدة بصرامة وود : ماذا ستأكل ؟
لم يفكر فى الطعام ولا يشعر بالجوع ولم يتخيل أنه سيستجيب لعروض الجدة فى مثل هذه الأحوال .
مدينة حارة بالأهوال فى لحظة حضارية أم لحظة انحطاط ، لا جوع لشئ أكثر من الجوع للحياة .. والحياة تختنق بدون كرامة .
وليس لها قيمة بدون حب ، وليس للانسان مكان بدون احترام وتقدير .
مدينة ضائعة بلا أمل يبحث سكانها عن ذواتهم بنشوة الثأر واحتقار ذوات الآخرين .
مدينة طيبة بلا طيبين ، والجدة بحركات ثقيلة تضع الوجبة الساخنة وتمنحه نظرات حانية ، ثم تجلس وهى ترسم على تضاريس وجهها ابتسامة تاريخية .
لن أذهب الى هذا الرجل ، لن أضع يدى فى يده ولن أتعامل معه ما حييت .
قال الفتى وعيناه تلمعان بالحماسة .
عينان تزدحمان بالخبرات ازدحام بيتها بالذكريات وتواريخ وسير الحروب وكؤوس وميداليات التفوق .
لا يخلو جدار من صورة أو تذكار يحكى بطولات ومهارات ومواهب بدون كلام ولا ثرثرة .
استندت على عصاها ووقفت بتدرج وبطء ، تحجب شيئاً فشيئاً صورة الابن المعلقة على الجدار ، ليتجلى للحفيد صوته فى حديث جدته الذى يجمع بين الحنان والحسم والقوة والخبرة والامتاع .
مهما كانت التضحيات نحن لا نضعف فى الأزمات ، وهذه ليست المرة الأولى التى نخوض فيها حرباً .
لا ننتصر بالكلام والشعارات انما بالأفكار .
أنظر لهذا البيت واقرأ تاريخ سكانه جيداً قبل أن تتخذ أى قرار أو تتحرك خطوة للأمام أو للخلف .
تحركت هى ببطء للأمام قليلاً ثم الى اليسار وتعود لتميل ببطء أكبر لناحية اليمين ، لتظهر أمامه صورة الأب وتختفى فى زيه العسكرى الصارم بملامح طيبة ودودة .
يستعيد الحفيد تماسكه ويستجمع خيوط أفكاره ليطرحها ريثما تنتهى الجدة من حديثها .
هذا الرجل لا يصلى يا جدتى ، ولا أراه بالمسجد ، وليس منا لأنه سكير ومعروف بمغامراته النسائية ، وأخبرنى بعض رفاقى بالمسجد أنه يسارى كافر .
أسفل الصورة المهيبة تجلس الجدة فتسرى القشعريرة بجسده ويحاول الابتعاد لتصطدم يده بأحد الرفوف لتهتز صورة صغيرة لأبيه فتتضاعف الرهبة .
يُغلق الباب ليحتويه ذلك الشعور المرير كلما فارق البيت ، ليعاوده نفس الألم الذى ضرب صدره وهو يستمع لكلمات أبيه الأخيرة .
المدينة تستحق أن نضحى من أجلها .
تستلمه روائح الأحقاد وخرائط الانقسامات ودوى الشتائم والشائعات ، كلاب أنجاس سفلة خونة عملاء سفاحون فاسدون رجعيون خراف عسكر فلول ارهابيون أشرار قتلة .
ابن ... بنت ...
يتلقى أفحش الاهانات ، يضع يده على لحيته الصغيرة .
مدينة تطفح بالكراهية .
ينظر الى سائق التاكسى بريبة وحذر ، يهم باغلاق الراديو وحجب الموسيقى اكراماً لتدينه فيطمئن له .
يتمنى العودة ويقف مشلولاً أمام الباب .
يفتح بهدوء ويتلقاه بدون ترحيب .
يكتشف فى دقائق قليلة تفاصيل فخمة واعتناء بالغ بعادات حياتية بسيطة .
رجل ملتح فى عقده السادس ، يقرأ بنشوة ، يلتهم السطور والكلمات باشتهاء ولا يثرثر .
يسلمه الرسالة فيقرأها بصمت وعناية وكبرياء .
قبل أن يغلق الباب وقعت عيناه على غرفة صغيرة ملحقة بغرفة المكتب .
لم يرَ فيها أثاث سوى سرير صغير .
وعلى المخدة البيضاء لمح سجادة صلاة ومصحف ومسبحة .



رد مع اقتباس

