بيتــــــــــــــزا !!!

لم تمنعه الحمى من القفز من فراشه لدى سماعه النبأ ، حاول الوقوف على قدميه سقط محدثا دويا . جاءت زوجته ومع صبيه ( حنفي ) عاوناه على الجلوس في فراشه ، سألته بلهفة :
ــ الشر بره وبعيد . مالك يا حاج ؟
ــ اليافطة يا حاجة . يافطة المحل .
ــ مالها يا حاج ؟
ــ ابنك الباشمهندس خلعها . خلعها يا حاجة .
ــ وأنت إيه عرفك ؟ ما أنت نايم في سريرك في أمان الله . آه لازم صبيك بوز الإخص ده حاكم أنا عارفاه جلاب مصايب .
ــ سيبك من حنفي دلوقت ؛ أنا لازم أروح أشوف الحكاية إيه .
ــ تخرج إزاي وأنت في الحاله دي ؟ لا يمكن أبدا .
ــ أنا أما أقول ها أخرج يبقى ها أخرج , وأنت عارفه كويس .
ــ طيب يا حاج اللي تشوفه . بس سايقة عليك النبي تستنى شويه أجيب لك حاجة سخنه تشربها .
على الفراش جلس يحتسي الحلبة بعد أن ارتدى جلبابه ، ودس قدميه في حذائه .. رشف رشفة ونظر إلى الجدار أمامه ؛ اصطدمت عيناه بصورة قديمة باهتة فهز رأسه بأسى.
أربعون عاما أو تزيد ، كان فتيا وقتها ، لا ينسى ذلك اليوم أبدا ، فبعد مشاورات ومشاحنات وشد وجذب استطاع أبوه انتزاع المحل من براثن الخواجة ( توني ) ، وثبت عليه اللافتة الجديدة ؛ ثبتها قبل أن يغير ما بداخل المحل . كان المارة يتغامزون ويضحكون ( يافطة فطاطري على خمارة ) لكن أباه لم يعبأ بهم ، كان يعرف ما يفعل فقد ظل أياما يتفنن في عمل اللافتة قبل أن يتسلم المحل من الخواجة .
لسعته حرارة الكوب فتنبه ،ورشف رشفة منه ، وضعه على الكومودينو ، وأخذت يداه تربتان على فخذيه بعصبية . لم يطق صبرا فقام خارجا إلى الردهة ومنها إلى خارج الشقة ، صفق الباب بعنف ( لعنة الله على شباب اليومين دول . الواحد منهم عايز يربى سوالفه ، ويرطن بالأفرنجي ، ويبقى بيه . مش مهم بقى إزاي وبكام . مش مهم أبدا بكام ) قالها بعصبية وهو يلكم الباب الخارجي للمنزل لكمة أحدثت دويا في الليل . لم يبال بألم يده ، ولا بالناظرين المندهشين . تابع سيره ( جيل يتعب ويشقى ، وجيل يضيع كل شيء في التراب ، ويحط راسه في الوحل ).
حاول المستحيل معه لكنه أصر على موقفه ؛ أن يترك مهنته كمهندس ويعمل معه بالمحل . في البداية أخبره أنه يريد تطوير المحل ( فالمستقبل للديكور الجديد والشكل الجذاب ) وجد كلامه معقولا فوافق ، لكنه اشترط عليه أن تبقى اللافتة كما أرادها جده ؛ بألوانها الثلاثة : الأحمر ثم الأبيض فالأسود ، و باللون الأخضر على المساحة البيضاء ( فطاطري ابن البلد ) .. ياه كانت أيام .. كان يتفنن في اصطيادهم بعد مطاردتهم في حواري القلعة الضيقة الملتوية . لم يعط لأي جندي منهم الفرصة لاستخدام السلاح.. آه السلاح .. لم يعد السلاح هو العلم في هذه الأيام ( هكذا يقولون ) وإلا لما ترك الهندسة واتجه للبيتزا . كاد أن يتعثر على الدرج المؤدي للشارع الكبير عندما رنت في أذنيه تلك الكلمة اللعينة ( بيتزا ؟ ! بيتزا في القلعة ؟ الله يسامحك يا باشمهندس ).
منذ شهرين صُعق عندما رأى ابنه وقد هدم الفرن الكبير في صدر المحل ــ والذي بدونه يصبح المحل أي شيء إلا محل فطاطري ــ رغم ذلك تمالك أعصابه وسأله عن السبب ، فأخبره أن هناك فرنا أحدث منه في الطريق إليهم . أوشك على الصراخ عندما تجاسر وأنباه أن فطيرهم أصبح موضة قديمة ، وأن هناك أنواعا جديدة واردة من الخارج عندما سمع اسمها أول مرة هب كمن لدغه عقرب لم يدر بنفسه إلا وهو في فراشه ، وعن يمينه زوجته تطالعه في قلق ، وعن يساره تل من الأدوية التي وصفها الطبيب .
عندما عاده الطبيب للمرة الثانية أنباه أن ضغطه في ارتفاع ، وحذره من الانفعال . انفعال ؟! وكيف لا ينفعل ؟ لقد حاول عبثا إقناعه بأن الفطير البلدي أحسن فطير ، وأن هذه البدعة لن تجر وراءها إلا الخراب لكنه لم يستجب .
لسعته برودة الجو فأحكم لاسته حول وجهه ، زفر في ضيق ( تجديد وقلنا ماشي بيتزا وما قدرناش نقول لأ . لكن كله كوم واليافطة كوم ) .
بخطواته السريعة اقترب من المقهى . حين أصبح أمامه ألقى السلام ، لم يسمع ردا بعد أن تجاوزه سمع صوت الشيخ سند ( ابن الحاج جاد جاب للمحل توني جديد .. الله يرحمك يا حاج جهاد ) شعر بالنار تضطرم في أعماقه . أحس بلفحها فرفع اللاسة عن وجهه ، وأسرعت خطاه . على البعد لاح له المحل . مجموعة ألوان فاقعة كانت الواجهة. اقترب فشاهد فتاتين شقراوين على جانبي المدخل ، اقترب أكثر شاهد ابنه ينحني مفسحا الطريق لشريكه الخبير ؛ خبير البيتزا !! غلى الدم في عروقه، انتفخت أوداجه، ارتعشت يداه ، ترقرقت في عينيه دموع لا تنهمر ، التفت يمينا ويسارا وجدها أخيرا مركونة على جدار قريب ، ملطخة بالأصباغ مطموسة الملامح ، تناولها بيده احتضنها وقبلها ، نظر إليهم بغضب ، هز رأسه آسفا ، لاح في عينيه إصرار عنيد ، حملها تحت إبطه الأيمن ، و.. مضى ... إلى أقرب محل دهانات .
[line]
جريدة عُمان 31 /1 /1996 (سلطنة عٌمان )
مجلة الثقافة الجديدة ابريل 1997 ( القاهرة ).
جريدة الرأي العام 4 / 5 / 2003 ( الكويت ).