
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الضبابية
هذا الشاب أخي..
أجل هو أخي ورب البيت
هو هو الصبي الذي كبرت معه تحت سماء فيها من طائرات الاحتلال أكثر مما فيها من الطيور والسحب. هو هو الفتى الذي سابقته مرارا في الحارة الضيقة ، وأقدامنا الحافية تغوص في الطين البارد.. ليس لأننا قذرون ولا لأن أمنا لا تهتم بنظافتنا وصحتنا، بل لأنها -مع عملها ليلا ونهارا- لم تستطع بعد كسب ما يزيد عن ثمن رغيفين حتى تشتري لنا أرخص حذاء.
أجل.. هذا الشاب هو أخي.. أخي الذي لطالما نمت ويدي تقبض على يده في بيتنا لأنني أخشى العتمة، وأمي لم تكن تشعل لي ضوءا في الليل لأنها لم تكن تملك هذا الضوء.
كنت وإياه ننام معا في بيتنا وأمنا معنا ، وكذلك معنا ابنتا خالي ..
خالي الذي ذبحه اليهود لأنه كان يحمل فأسه ذاهبا إلى حقله ..
لأنهم كانوا يريدون أن يصبح الحقل لهم ، وألا يعود خالي إليه ..
لكنه عاد ، ولأنه عاد إلى حقله فقد استحق الذبح
كنا جميعا ننام متجاورين في بيتنا لأن بيتنا هذا كان حجرة صغيرة في قبو منزل نصف متهدم
غرفة واحدة هي كل البيت وفيها كل مرافقه، عدا مطبخا لأننا لم نملك يوما ثمن أدواته ولم نجد يوما ما نطبخه فيه. وعدا غرفة ضيوف لأنه ليس ثمة أرائك لدينا نضعها فيها وليس ثمة من يأتينا.
وعدا غرفة جلوس لأننا ما كنا نملك أريكة أو كرسيا أو تلفازا أو حتى حشية صغيرة.
كان بيتنا ملاءة كبيرة ممزقة تطويها أمي كل صباح كي نجد شيئا في الليلة القادمة يخفف عن أجسادنا الصغيرة لذعة البرد وقسوة الحصى الذي كان يفترش بيتنا من أقصاه إلى أقصاه.
وكان بيتنا نافذة ضيقة صغيرة في أعلى الجدار.. يخبرني أخي هذا أنني متى كبرت سأستطيع أن أطل منها لأرى جدار البيت المجاور لنا
كان بيتنا قفزتين مني أنا الصغيرة.. وأربع خطوات حزينة تخطوها أمي المتعبة عند عودتها لتتوضأ من كوز الماء الموضوع في زاوية البيت
كان بيتنا صندوقا صغيرا، كلما خرجت أمي لشقائها اليومي هرعنا – أناوهذا الشاب حين كان طفلا – إليه لنخرج صورة رجل تشي ثيابه بفقره، وإن كنا حينها نراه غنيا لأننا لم نكن نرتدي إلا بقايا ثياب
وبجواره امرأة جميلة تشبه أمنا كثيرا، لكن الفرق بينهما أن عينيها تضحكان، أما أمنا فلها عين دامعة أبدا، وأخرى مغمضة أبدا لأن – كما حكت لي ابنة خالي الكبرى- يهوديا صفعها عليها حين حاولت أن تنقذ خالي من القتل،
وحين سال نور عينها على اليد القذرة قهقهت اليد ساخرة:
تكفيك عين واحدة لتقتلي نفسك عليه بكاء
و المرأة في الصورة أيضا تختلف عن أمنا بابتسامتها التي يغمرها نور الفرح، أما بسمة أمي فميتة تتمنى لو تبعث فينا الحياة!!
لكننا ما كنا نهرع للصورة لنرى المرأة التي تشبه أمي، بل لنتأمل الرجل معا وننظر: هل كبر أخي وصار يشبهه أم ليس بعد؟
كان المطر يهطل غزيرا ملونا بظلمة الليل، لكنه لم يخدع الطفل –الذي عرفتموه شابا– عن أنين الدمع على خدي أمه، ففتح عينيه صامتا ومضى ينصت لصوت أمه يبتهل إلى الله أن يكبر صالحا مؤمنا كأبيه ويكون لها عونا وقرة عين
وكبر أخي
كبر مذ ذاك اليوم
صار يجلس إلى رجال الحي وفتيانه بعد أن كنا متلازمين
وصار يلتقط منهم أسرار صناعاتهم بصمت ويتعلم.. لطالما تعلم أخي بصمت ودأب مذ علم أن الغالية دامعة العينين تنتظر اليوم الذي تستند فيه إلى ساعده المفتول
أما أنا فعلمت كل هذا منه حين عاتبته فألححت في العتاب والبكاء لأنه لا يكاد يفرغ لي
فإذا بنا نكبر معا..
وأبي.. أبي الذي كنا نبحث عن ملامحه في وجه أخي كل يوم
بنى بيتا صغيرا بساعديه ، وحمل أمنا إليه عروسا شابة
وبعد عامين قضاهما يصلح الأرض حول البيت جاء الصهاينة من وراء البحر
جاؤوا ليقولوا أن البيت الذي بناه بيتهم
وأن الأرض التي ورثها عن أبيه أرضهم
وأن حتى زوجه ملك لهم
فلما حاول أن ينقذ عائلته الصغيرة ذبحوه أمام زوجه وبين يديها
وكان أخي يحلم أنه حين يكبر سيعيد لأمي الأرض والبيت الصغير
وسيمسح دمعها ويرسم على شفتيها بسمة سعيدة كبسمة صاحبة الصورة
لكنه كان يصمت طويلا إثر أحلامه هذه..
ويبدو لعيني الصغيرتين حائرا حزينا.. ولم أكن أدري لم؟!
مرة قالت لي ابنة خالي:
سيعيد لأمك كل الماضي الجميل..
لكنه لن يستطيع يوما أن يعيد لها أباه.. ولا أخاها
يومها كبرت سنينا.. لأنني يومها فحسب أدركت معنى الموت
أجل.. هذا الشاب أخي
أخي الذي كبرت معه
الذي كان يغني لي أهازيج لست أدري من أين يحفظها
ويقرأ لي عند الفجر قرآنا، ليسمعه مني عند الغروب
هذا الشاب هو بكل تفاصيله أخي
أخي الذي عمل –حين صار رجلا عمره اثنا عشرة سنة– في نقل الحجارة للبناء
كنا نظنه يومها خرج ليلعب، لكنه عاد بأربعة أرغفة كبيرة مستديرة جميلة وجسد محمر من أثر الجهد والشمس.. يومها جلس يراقبنا بفرح وكل منا تمسك بيدها لأول مرة رغيفا كاملا لها وحدها
لكن أمي أجبرته كارها أن يأخذ نص رغيفها، وجعلت كلا منا تحتفظ بنصف رغيف للغد .. ما أكثر ما جاء به الغد !
وذهب أخي ليعود في يومه الثاني بثلاثة أرغفة ما أن حملتها عنه حتى دار على عقبيه وغادر مسرعا ثم لم يعد حتى أظلمت السماء، فلقيته أمي في عتمة بيتنا بالعتاب
وفي الصباح علمنا أنه لم يكن مع رفاقه لاعبا بل عمل حتى جاء لأمي بثوب خير من الذي ظلت تلبسه مذ وعيت عليها حتى كنت أظنه بعضا من جسدها
فرحنا جميعنا يومها، لكن أمي بكت كما لم أرها تبكي من قبل ومزجت دمعها بالدعاء لهذا الشاب الذي وقف محتارا لا يدري كيف يمسح عن وجهها الحزين دمعا لم يكن ينتظره
هذا الشاب والله أخي ..
أخي الذي حين بلغ الثامنة عشر لم يكن يحلم بالجامعة، ولم تنهل عليه الهدايا لاجتيازه الشهادة الثانوية.. لكنه جاء إلينا باسما وضمني وأمي إلى صدره ثم أخذنا معه
صار لنا بيت.. بيت ليست حدوده ملاءة.. وصندوقا فيه صورة.. ونافذة
بيت ذو حجرتين كفتا أخي حياءه من ابنتي خالي الصبيتين
فراش كبير في إحدى الحجرتين
وحصير أخضر جميل في الأخرى
صارت الحجرة الكبيرة للفتيات
وصار هذا الشاب يأتي في المساء ليأكل لقمة أو لقمتين ثم يتوسد جانب الحصير الأخضر وينام حتى الفجر
هذا الشاب أخذني معه إلى السوق -الذي لم أذهب إليه قط من قبل- واشترى لي ولابنتي خالي قماشا لتصنع كل منا لها ثوبا جديدا
وعدنا سعيدين إلى بيتنا الصغير..
لكننا لم نجد الحصير، ولا الفراش الكبير ، ولا أمي وابنتي خالي
وجدنا فقط ركاما وبقايا حريق
أنا رأيته..
رأيت هذا الشاب يعتصر بين يديه بقايا جسد أمي الممزق
أنا رأيته يبكي!
حرمه صاروخ إسرائيلي حاقد من دعاء أمي كل فجر
ومن لقمة تصنعها له حين يعود من عمله متعبا مورم الساعدين
ومن صورة الرجل الذي كبره ليحمل ملامحه
احترقت الصورة ، لكنني أذكر وجه الرجل فيها
إنه هو هو وجه هذا الشاب
وهذا الشاب والله أخي
إيه يا شياطين الإنس
إيه يا أمريكا ويا إسرائيل
إيه يا من تريدون أن تمحى غزة من الوجود
هذا الإرهابي أخي!
أخي الذي ظل يشتري لنا بعرق جبينه أربعة أرغفة كل يوم
فحرمتموه بحقدكم ما بقي له من هذه الدنيا
حرمتموه ثلاثة أفواه حبيبة فأحرقتم ما بقي من صبره
وصار يشتري كل يوم رغيفا.. وثلاث رصاصات
إيه.. هذا الإرهابي أخي الذي.. حرمتموني إياه
إليكم هذه الإرهابية
_ _ _ _ _ _
هامش ..
معذرة إذ استأثرت بصورة الشهيد محمود رحمه الله ..
لكنما كل قسامي أخي
********
رحمه الله وأكرمه بمحبته وقربه
غموض
كنت أقرأ وأبكي بحرقة رغم إدراكي بأن هذا الحزن ليس جديداً على القلب لكن ثمة حرف
يعرف كيف يغسلنا من تبلد مشاعرنا فيا ليت للهوان الذي يشوه وجه حياتنا مايغسله ،
ولقسوة البشر مايوقفها عند حد.
عميق تقديري لكِ واعجابي بكتاباتك المميزة.