سيد الرجال

... وحين هممت بالخروج إليهم، وهم يتعاركون حول الأرض التي تركها لهم أبوهم. كنت تنظرين إلى صورته المعلقة على الحائط بشاربيه المبرومين. أخذتِ تحدقين فيها بعينيك الضعيفتين، اللتين أتعبهما الزمن وكثرة البكاء عليه. مازالت الدموع تبلل خديك! كأنك تستحثينه أن يخرج إليهم ويزعق فيهم بصوته الجهوري كما اعتاد معهم. كانوا وحده يهابونه ويختبئون منه كالفئران.
قال لك قبل مماته:
خذي بالك من الأرض يا أمينة.
تعرفين كيف أمضى عمره في الغربة من أجلها، وحين عاد دفع كل شقائه من أجل أن يشتريها..
قال لك بكل فخر وهو يشد جسده الضخم كعملاق:
الأرض هي العزوة.
كان هاجس عمره أن يشتري له أرضا وبقرتين وحمارا. أن يضع رأسه برأس كل أهل البلد الذين دائما ما يعايرونه بأنه بلا أرض... حرم نفسه من كل شيء من أجل أن يشتريها.. تتذكرين يوم أن اشتراها حينما ارتدى جلبابه الصوف المكوي، ووضع على كتفه قفطان الشال، وأمسك بالعصا الـ (زغلولة)، وتمشى بين الناس فاردا جسمه، رافعا رأسه، والكل يحيه ويبارك له.
يومها عاد إليك كشاب في العشرين من عمره، ورقص أمامك بالعصا، فضحكت، وقلت له ممازحة:
يخيبك يا دي الراجل.
قال لك باعتزاز:
ألا تستحق يا أمينة؟!
رددتِ عليه، وأنت ترقينه من الحسد:
تستحق يا سيد الرجال.
كان أكثر ما يقلقه، أولاده.. ظل يردد دائما بحسرة:
خسارة تربيتي فيهم.
لا يعرف سببا لتمردهم الدائم.
لم أبخل يوما عليهم.
قالها لك مسهدا بالعذاب والألم.. أضاف متجهم الوجه:
كنت أحافظ على القرش، ليكونوا من أصحاب الأرض.
رددتِ عليه تواسينه وتخففين من ألمه:
مصيرهم يكبروا ويعقلوا!
لكنهم كبروا وتزوجوا، وغادروا الدار، فقال بيأس شديد:
دول أولاد ملاعين، تابعين لزوجاتهم.
أوصاك بعدها بشدة:
حافظي عليها زي عينيك.
همستِ بحزن بالغ:
ضاعت العينين يا سيد الرجال، وربنا يستر على الأرض.
طوحت الشال على رأسك، والغضب يتدافع في العروق كالغليان. كان يحز في نفسك بأنهم لم ينتظروا حتى يمر عليه الأربعين. كانوا لا يحبون خدمة الأرض، ولا الفلاحة فيها. لم يفكر واحد منهم في مساعدة أبيه ولو مرة واحدة.
كأنهم كانوا ينتظرون لحظة مماته، ليهدموا كل ما بناه.
قلتها بيأس جعلك تترنحين. قاومت تعبك، ونهضت بصعوبة. أمسكت العصا، واستندت عليها. بخطوات عاجزة، وعينين لا تكادان تبصران الخطوة القادمة اتجهت نحو المندرة.
أقسمت أن تبصقي عليهم واحدا واحدا، وأن تصرخي فيهم:
كفاكم ما فعلتموه فيه في حياته. دعوه يهنأ برقدته.
ضربت بابها بطرف عصاك، فانفتح الباب عن أربعة أجساد كالعجول كما كان يلقبهم المرحوم. دققت طويلا حتى تراءى لك الأشباح الأربعة جالسين على الكنبة. كانت أيديهم ممتدة ومتعاركة وألسنتهم كالرماح تضرب أسنتها في كل اتجاه. لم يلتفتوا إليك ولم يبالوا.
شق الصوت المرتفع أذنيك:
نبيع الأرض، وكل واحد يروح لحاله...
كانت كطلقة رصاصة اخترقت صدرك، فتمالكت نفسك بصعوبة. دفعت العصا لتتقدمي خطوة. خانتك العصا، وانزلقت قدماك. تهاوى الجسد المنهك نحو الأرض.
ارتطم الوجه بالأرض بشدة، وخرج الصوت صارخا. سال الدم من الرأس والفم، وبصيص النور الباقي في عينيك ينظر إليهم عسى أن يندفعوا نحوك فتسامحيهم. ظلوا مكانهم جالسين، ولم ينتبهوا إليك. جاءك صوتهم هادرا كالهمس:
نبيع الأرض وكل واحد يروح لحاله.
أخيرا أغلقت الشفتين، بعد أن خرجت الكلمات ثقيلة كالحجارة:
قلبي وربي غاضب عليكم!