شطحاتُ ظمآنَ لمْ يظمأْ بعْدُ

د.نبيل قصاب باشي

هناك يموت الهواءُ ويحيا الهواءْ
ويحلمُ بالغيثِ غيمُ السماءِ وتحلمُ بالغيمِ قطرةُ ماءْ
وينتظر الماءَ بعضُ الظماءْ
هنالك يشتاقُ للموت كلُّ غريبٍ أضاعَ ملامحَهُ في العراءْ
تراه يفلسفُ أشواقنا .. وترانا نفلسفُ أشواقه في معاني الفناءْ
يموتُ بنا ونموتُ به غيرَ أنا جهلنا كلانا المعاني وتهنا بتفسيرِ أشيائها
هاهنا أو هناك تُضلّلنا أحرفٌ غامضاتُ الهجاءْ
نحاول نبش مخابئها غير أن وراء إشاراتِها فلسفاتٍ تناهتْ إلى ما وراءَ الوراءْ
فشلنا كلانا وأعيت حجانا التفاسيرُ حتى كفرنا برب السماءْ
"أرسطو" يمجّدُ عقلَ البرايا الحكيمَ ونحن نمجّدُ كل حكيم يقدس في جهلنا الجهلاءْ
و"سَرتَرُ" : "يزعمُ أنَّ وجودي هو الواجبُ الحقُّ لا ممكنٌ غيرُه وإلهي استوى في خيالي الكسيحْ
أنا ذلك الربُّ أفعلُ في المستحيلِ الذي قد أريدْ"
ولكنني عاجزٌ لستُ إلا صدىً في الصدى أيها الفلسفيُّ الجليلْ
وتزعمُ أني "أنا الحرُّ وحدي أنا الخيرُ والشرُّ وحدي
أنا مَنْ خلقتُ الجمالَ وكلَّ مليحٍ وكلَّ قبيحْ
وغيريْ هو الفلسفيُّ الشقيُّ
هو الواهمُ العَدَميُّ
ووحدي الوجودُ وماهيّتي منْ صنيعي ولا ممكنٌ يصنعُ المستحيلْ
أنا ذلك المستحيلْ
وعقلي الدليلُ وحريتي كنهُ هذا الدليلْ
انا الأزليُّ أنا الأبديُّ وعقليَ حرٌّ يريدُ هوى ما أريدْ
وليس لغيريْ سوى ما أردتُ بهذا الوجودْ
وما اخترتُهُ باطلٌ أو محقٌ هو الرأيُ رأيي الوحيدُ السديدْ
وكلُّ الحقائقِ عندي هي المنتهى .. ينتهي القيدُ فيها وتفنى الحدودْ
وتُطمَسُ كلُّ المفاهيمِ دوني
وتُهزَمُ كلُّ القيودِ وتُهْدَمُ دونيَ كلُّ السدودْ"
وغيريْ على هامشٍ يتشهَّى المعانيْ ويحلمُ أنْ يتفقَّهَ مثلي معاني الغوامضِ في كل مَتْنِ
كلانا يمجّدُ في عقلِهِ عقلَهُ فتتيهُ العقولُ ويلعنُنا العقلُ والعقلاءْ
كلانا يقولُ أنا المطلقُ الفرْدُ وحدي أرى ما يرى الحكماءْ
وغيري عقيمُ الحجا مُدلهمُّ العَمَاءْ
أنا مَنْ يرى وحدَهُ مايرَى
وأعبرُ نحو الأمامِ إلى حيثُ يجهلُ سرّي جميعُ الورى
وغيريْ يرى ويحثُّ الخطا للوراءِ ويمكثُ خلفيْ على ضفّةِ القهقرى
أنا من يقول أنا هاهنا .. وسوايَ يقول هناك أنا
غير أني أنا هاهنا وهناك ، وليس سواي هنالك أو هاهنا
تُرى أي عقلٍ وأي هوىً نرجسيِّ الولاءْ ؟؟
أخي أين أنتْ ؟
وأين أنا ؟
لعلّي عرفتُ الذي قد جهلتْ
لعلّي جهلتُ الذي قد عرفتْ
لعلّي لعلي
لعلي أنا العقلُ لكنني خنتُ عقلي
لعلي لعلي
لعلي أنا الجهلُ لكنني خنتُ جهلي
لعلي لعلي
لعلي أنا الشيءُ والشيءُ مثليَ كنْهٌ عصيُّ التجلي
لعلي أنا الأصلُ والفرعُ غيري
وربَّتما الفرعُ كان هو الأصلَ عندي فلا أنا أصلٌ لفرعي ولا هو فرعٌ لأصلي
تجلّيتُ فيه ولكنه كانَ فيَّ هو المتجلي
ولكنْ لعلي أنا ذلكَ المتجلي
وغيريَ مثلي
ومثليْ إذا شئتَ غيري
أنا مَنْ أنا من أنا.. يا ترى ؟؟
فهل بعضُ جُزءٍ أنا أم ْ أنا بعضُ كُلِّ ؟
وهبْنيَ جُزءاً و كُلّاً وغيريَ هبْهُ ـ إذا شئتَ ـ جزءاً وكلاً !! إذنْ فكلانا سواءٌ هنا
ولكن كلانا صدى لهواءٍ يدمدم فيه الهواءْ
وقرقعةٌ في خواءِ فراغٍ يُهمهم فيها الخواءْ
أنا من أنا من أنا من أنا؟؟
إلى أينَ أمضي؟
وأين ستغدو الدروبُ بأرضي؟
إلى من سأغدو ؟؟ أأغدو إلى ضدِّ ضدي؟؟
أمَ انّي سأغدو إلى بعضِ بعضي؟؟
دعوني على هذه الأرضِ وحدي
دعوني هنا جاثياً في جحيمِ "الأنا"
هنا سوفَ أجثو ..وغيريَ مَنْ سوفَ يجثو هنا ؟؟
ويبقى سِجالُ "الأنا" بيننا !!