الهدوء يخيم للحظاتٍ على أرجاء المكان. أُناس تطل برؤوسها من نوافذ البيوت. على قارعة الطريق يقف بعضهم يتفرج والبعض الآخر يلقي نظرة من بعيد ثم ينسحب، رائحة المطاط لا زالت تنبعث من الطريق المعبّد بالأسفلت. ينساب جمع كأنما انبثق من العدم ويلتئم كالزئبق ليشكل حلقة حوله وهو ملقي على الأرض، كان جسمه الممدد يكسوه بعض الغبار.

- فيكتور، فيكتور، فيكتور.

صرخات تأتي من الخلف منبعثة من سيدة ذات شعرٍ أشقر ملمومٍ للخلف، تلبس حذاءً أسود يغطي ساقيها.. أفلتت السيدة الشقراء بالطفلة التي بين ذراعيها حتى استقبلت هذه الطفلة الأرض بوسطها، وشقت هي طريقاً بين الجمع.

على بعد خمسة أمتار تقف سيدتان تتهامسان تقول إحداهما للأخرى: إنها جارتنا الجديدة السيدة ( جوليا ) زوجة رجل الأعمال الثري ( مصطفى كريم ).

- من الذي فعل هذا ؟ تكرر ( جوليا ) هذه العبارة عدة مرات وهي جاثية على ركبتيها.

- هناك.. يشير أحد الأطفال المتواجدين بذلك الاتجاه، وهو يمتطي درّاجة هوائية.

على بعد أمتارٍ يقف شاب برز شعره الطويل من تحت قبعته، كان واقفاً كتمثال من الجليد وباب سيارته مفتوحٌ والأغاني والموسيقى الصاخبة تنبعث منه. الأنظار كلها تتجه ناحية الشاب، وفي هذه الأثناء تتسلل الشمس من خلف الغمام لتكشف أكثر عن ملامحه وكأنما تتعمد هذه الشمس تسليط الأضواء عليه أكثر.

تندفع السيدة الشقراء ناحية الشاب وطفلتها الباكية تتبعها وهي متشبثة بها، فتتعثر هذه الصغيرة برجليها وتقع.

- ماذا فعلت أيها الغبي ؟ تقولها وهي تهز بقبضتيها كتفيّ الشاب فيهتز جسمه النحيل كاهتزاز عود الخيزران.

يحمر وجه الشاب وتخرج الكلمات متلعثمة من لسانه.

- ااااا لقد خخخخخرج عليّ فففجأاااة ففصدمته السيارة.

- صدمته السيارة ؟

- إنه حي، لم يمت بعد، انظروا إنه يتنفس. نطق رجلٌ وهو منحني الظهر وعيناه تجريان فوق ( فيكتور ).

تندفع ( جوليا ) من جديد نحو ( فيكتور ) بخفة لبؤة رشيقة والطفلة في أعقابها باكية.. تضطجع على الأرض، تمسد رأس ( فيكتور ) وهي تنظر إليه من خلف ضباب الدموع، تتساقط من محاجرها قطرات فوق رأسه، يحرك فمه وكأنما يريد أن ينطق ببعض الكلمات.

يُسقط رجلٌ آخر بصره في ساعة يده ثم يرفع رأسه ويقول:

- يوجد مستوصف حكومي غير بعيد يختص بهذه الحالات، وأعتقد أنه بقي على موعد إغلاقه مدة ساعة، هيا لننقله إلى هناك قبل فوات الأوان.

لحظاتٌ وتستقر سيارة أحد الحاضرين بمحاذاة ( فيكتور ) يبادر فيها صاحبها بطلب المساعدة ونقل المصاب.

في السيارة تجلس السيدة ( جوليا ) في المقعد الخلفي، تضع ( فيكتور ) بين جنبيها، وعلى رصيف الذاكرة يمر طيفه في مخيلتها فتستذكر تحركاته، ملاطفاته، إزعاجه، تمدده معها فوق السرير، إلقاء جسمه عليها عند رؤيتها، مرافقته الدائمة لها.

- أسرع من فضلك.

تحث السائق على السرعة فيستجيب هذا الأخير لندائها غير مكترث من قطع اللون الأحمر لإشارة المرور الضوئية.. تعود ( جوليا ) من جديد لتسبح في بحر أفكارها وتقول في سرها:
تحمّل يا عزيزي، اصمد قليلاً، لن تموت وتدفن في مقبرة النسيان، ستتجاوز هذه المحنة وتعود إلى البيت معافاً سالماً، سوف ترافقني في رحلاتي وتجوالي، سنمارس الرياضة معاً، سأطعمك أشهى الأكلات. هل تتذكر يا عزيزي آخر مرة سافرنا فيها معاً ؟ لقد قطعنا الوديان وتجولنا في البساتين والحقول الخضراء، واستمتعنا بجمال الطبيعة الخلابة، ومارسنا رياضة تسلق الجبال. ستسافر معي في المرة القادمة لزيارة أمي ( ريماس ) وجدتي ( سيلين ) فهما يستأنسان برؤيتك.

في المستوصف تجلس ( جوليا ) على مقعدٍ جلدي في صالةٍ يفضي بداية ممرها إلى غرفتين متقابلتين كان ( فيكتور ) يتم إسعافه في إحداهما، تتناول إحدى المجلات وما تكاد تقلب صفحاتها حتى تعيدها مرة أخرى على الطاولة، تنظر إلى ساعة الجدار، تذرع الغرفة جيئة وذهاباً، تستقر أخيراً خلف زجاج النافذة وتنظر للخارج، فقد بدأت الغيوم تتداخل ببعضها البعض ويبدو أنها ستمطر.

بعد مدة من الوقت ظهر الطبيب ومساعده في صدر الصالة.

استدارت ( جوليا ) وخطت للأمام لتواجه الطبيب بعد أن كانت تنظر من خلف أعواد الحديد لطائر الكاسيكو الذي كان يردد بعض الكلمات ويقلد صوت خطواتها..

- كيف حال ( فيكتور ) ؟

تقدم الطبيب ووقف على بعد خطوتين من ( جوليا )، تنحنح ثم صرف ما علق في بلعومه، ثم قال:

أعتقد أنه تعرض لنزيفٍ داخلي في الجمجمة، وبعض رضوضٍ وكسورٍ في الأضلاع هذا ما بدى لي من تشخيصي المبدئي.. أعرف أنه غالي الثمن وذو فصيلة نادرة، آسف يا سيدتي، لقد بذلنا ما في وسعنا ولم تسعفنا المحاولات، لقد مات، لقد فارق الكلب الحياة قبل قليل..