مقاصد التوبة
دعوة إلى السير في مدارج الكمال


منقول عن: فضيلة الشيخ / محمد حسين يعقوب

قال الله -جل جلاله-: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]،

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التحريم:8]، وقال عز وجل: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات:11]

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة).


أيها الأحبة في الله ..
التوبة التي أمر الله بها عباده توبتان: توبة تُغير السير، وتوبة تُصحح السير، توبة يسلم بها العبد، وتوبة يجدد بها إسلامه، فالأولى توبة إسلام، والثانية توبة إحسان، والثانية منهما تكمل عمل الأولى؛ ذلك أنَّ التحول الذي تحدثه التوبة التي تعقب الغفلة والضلال، وإن كان شيئًا ضخمًا في مجال الأفكار والمعتقدات والمشاعر والأحاسيس والأقوال والأعمال، إلا أنها غير كافية لتحقيق كل ما ينتظر الإنسان بعد الهداية، فعندما ينهض بإصلاح ما فسد من أخلاقه وعاداته، وتقويم ما اعوج من أعماله وتصرفاته، ويتتبع بقايا الجاهلية في سلوكه: يكون قد شرع في التوبة الثانية، وإذا كانت التوبة الأولى تحدث مرة واحدة ويعيشها صاحبها في لحظة أو يوم، فإذا هو قد فصل بين عهدين من حياته، فإن التوبة الثانية تجديد مستمر، وعمل متواصل، وسعي دؤوب لتقليص هامش الإساءة بجميع صورها وتوسيع هامش الإحسان بكل أشكاله.
إنَّ توبة الهداية والإيمان تشبه الوقود اللازم لتشغيل محرك معطل عن العمل، وتوبة الإحسان هي الوقود الآخر الذي يحتفظ بالمحرك في حالة اشتغال حتى يبلغ صاحب السيارة مأمنه.

وقد يقول قائل: إنَّ الإسلام إنما تحدث عن توبة واحدة، فلماذا جعلتهما توبتين؟. والحقيقة: أننا لم نفرد التوبة الأولى عن الثانية بخصائص خاصة، فالرجوع إلى الله والإقبال عليه قاسم مشترك فيهما، ولكننا ميّزنا بين مرحلتين في حياة الإنسان، تحتاج كل منهما إلى توبة.

وإنَّما دعانا إلى هذا التمييز: ما نراه عند كثير من المسلمين من التهاون في الارتفاع بإسلامهم وإيمانهم، فتجد الواحد منهم -إذا كان قد حقق في أول التزامه بعض التحولات- لا يكاد يزيد عليها شيئًا جديدًا، مع العلم أن إحلال السنة محل البدعة والطاعة محل المعصية لا يتم بين يوم وليلة.

لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، فقد كان الواحد منهم إذا أسلم يخلع على عتبة الإسلام رداء الجاهلية ويشرع في إقصاء شوائبها من حياته، ويواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، ليصل أقصى ما يستطيع الوصول إليه من درجات الإسلام.

إنَّ الكمالات التي جاء بها الإسلام وأمر بالمنافسة عليها كثيرة جدًّا، كما أن النقائص التي نهى عنها لا تنحصر، وإذا كان الشيطان يضع العوائق في وجه ابن آدم يمنعه بها من التوبة الأولى، فإنه يستأنف محاولته مع من أفلت منه وتاب إلى ربه ليعوقه عن التوبة الثانية، فيصرفه عن تجديد إسلامه لتستوي أيامه، وتضيع منه الفرص، وتتحول حياته إلى ركود، بل لا يتردد في جر الإنسان إلى الوراء والتقهقر إلى الخلف، فبعد أن كان يتقدم إذا به يتأخر.




ولمحاضرة فضيلـة الشيخ محمد حسين يعقوب بقيــة بإذن اللـه ...