جرح بملامح انسان
عنوان لافت مؤلم ، نداء أكثر منه عنوان ، أو هي صرخة استغاثة ، أو اشارة توقف ، العنوان بحد ذاته قصة ..
من مميزات العمل القصصي أن يكون العنوان جاذباً صادماً ، وأن يدل على القصة ولا يفضحها ، وأديبنا نجح في ذلك بامتياز
بخطواتها الصغيرة البريئة صعدت المنصة، وجديلتها السوداء تتأرجح على ظهر معطفها الأبيض .. أعطوها لوحا ورقيا أبيض وقلماً و..
يبدأ القاص بالحركة ، بحرف جر تبعته حركة مباشرة للبطلة \الطفلة ، وكأنه جزء من مشهد مسرحي ، ولعل هذا سر اختيار البداية ، لأن القاص أراد لنا أن نصل الى ذات المفهوم ، وهو يروي بقية التفاصيل والحكاية ، وكأنه يقول : كتبت هكذا وبهذا الأسلوب ، لأن الحكاية كلها تتحدث عن مسرحية ، يقوم بها السادة وهم يراقبون أحلامنا ويسخرون منها
تدخل الصغيرة ، تصعد المنصة ، تتأرجح جديلتها السوداء ، نلاحظ أن الفعل صعدت بصيغة الماضي ، وأعطوها بصيغة الماضي ، بينما الفعل تتأرجح بزمن المضارع ، جديلتها السوداء كانت ولا زالت تتأرجح ، توازياً مع صعودها للمنصة ، بينما كانوا :هم يعطونها لوحاً ورقياً أبيض اللون ( اللون الأبيض ، هل يرمز الى قلبها ؟ أحلامها ؟ ظاهرها أم باطنها أم كلاهما ؟ ) وقلماً و .. ولم يكمل
لأن لسانهم بدأ بطرح الأسئلة ، وكان السؤال الأول :
ــ عرفينا بنفسك .
وكأنهم يجهلونها ، وكأنها نكرة ، وكأن طفولتها لا تعنيهم ، وأحلامها تخصها وحدها ، وهم لم يعرفوا أنفسهم ، يبقون دائماً هم ، دون أن يتجرأ أحدنا على السؤال
وتجيب الطفلة ببراءة :
ــ سألت أبي مراراً عن شهادة ميلادي فلم يجب؛ فهل تخبرونني أنتم؟.
فان لم يخبرك أبيك ، فلماذا يخبرونك هم يا صغيرتي ؟ سألت ولم تجد الاجابة ، والأدهى أن سؤالها يجعلهم يضحكون ، يسخرون منها ومن قولها
ضجت القاعة بالضحك لحظات ثم ساد وجوم ثقيل قطعته عريفة الحفل:ـ
ــ ارسمي لنا ما تحلمين به.
اذاً هو الاختبار منذ البداية كان لها ، لقدرتها على تجسيد أحلامها ، لجرأتها في ذلك ، هل أرى ملامح ثورة تجرأت ونطقت عن اسمها ، هل أرى ملامح مواطن مسحوق قرر أن يرسم أحلامه على يافطة ويعلقها فوق ظهره ليعلن نفسه للكون كله ، ارسمي لنا ما تحلمين به ، فهل يوافق حلمها أهواءكم ، وهل تقدرون على التنفيذ والتغيير ؟
رسمت نفسها وسماعة الطبيب تتدلى من عنقها .. في الخلفية رسمت بيتاً جميلاً ذا حديقة غناء، وطائراً يحلق بجناحيه.
وهنا ترتسم أحلامها بسيطة ، تريد أن تصبح طبيبة ، وأن تعيش في بيت جميل ذا حديقة غناء ، وأن تنعم بالحرية ، وهذه ولا شك دلالة الطائر الذي يحلق بجناحيه
وهذه عبقرية من الكاتب ، أن يكون لكل كلمة مدلولها ، في كل سطر من سطور القصة
التهبت الأكف بالتصفيق ..انطلقت صيحات الإعجاب والتأييد .. انهمرت عبرات.
النفاق في هؤلاء السادة لا يتوقف ، وكأنهم فعلاً يتفرجون على مسرحية ، فمنهم من يصفق ومنهم من يطلق صيحات الاعجاب ومنهم من يبكي ، تماماً مثلما يحدث لنا عندما نشاهد فيلماً جميلاً ، ثم نمسح دموعنا وننصرف من السينما دون أن نتذكر من الفيلم الا اسمه ربما ..
على باب القاعة الخارجي استردوا منها المعطف وتركوها مع لوحتها ،
وعلى باب المسرح كانوا ينتظرون ، استرداد المعطف هنا كان استعادة للأداة التي أعطوها لها لتحلم بها ، انتهى وقت الحلم ، وحان وقت الاستيقاظ على واقعك ، فلا تسرفي في أحلامك وأمنياتك
أما ترك اللوحة فدليل على لا مبالاتهم بها ، فتفكيرهم المادي يجعلهم يخشون من كل ما هو مادي ، وتجسيد المعطف يجعلهم يخشون المعطف لا اللوحة ، فيقررون مصادرته ، خوفاً من تحقق أمنيات الصغيرة
لتعود من حيث أتت. في طريق ضيق موحل بين بيوت " الكيربي" سارت ، محتضنة لوحتها بيمناها ، بينما يسراها في محاولات مستميتة لحفظ توازنها حتى لا تسقط .. في بركة الماء الآسن.
من حيث أتت هذه الطفلة ، هذه الحكاية ، تعود في طريقها الموحل الى البيوت المتواضعة والناس الذين يشبهونها ، تحتضن الأحلام بيمينها ، وحتى دلالة اليمين هنا لا تخفى عليكم
بينما باليسرى محاولات هؤلاء السادة الشياطين ، لاسقاطها في بركة الماء الآسن ، لاغراقها واغراق الحلم معها
رأيت هنا دلالات سياسية شعرت بها ، وكأني بها بلادنا التي أرادوا لها أن تحلم ، ثم استكثروا عليها ذلك ، فبدأت محاولات لا تنتهي لاغراقها ، وطمس حلمها ورغبات شعوبها بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية
رأيت هنا قصة قصيرة بحق ..
تقديري أديبنا المبدع
وخالص الود والحب