كانَ  مستلقياً  على  ظهرهِ  تتراءى  في  عينيهِ  زرقةُ  السماءِ  الممتدة ِ إلى  اللانهايةِ  .
يسمعُ  أنينَ  النهرِ  الذي  يمرُّ  من  أمامهِ  وهو  يعزفُ  لحنَ  الوداعِ  الأخيرِ  بعدَ  أن  كادَ  يجفُّ  من  قلةِ  الأمطارِ  في  هذا  الموسم  .
كانَ  قد  أسندَ  رأسهُ  إلى  إحدى  حجارة ِ هذا  الجرفِ  الذي  مازالَ  يشمخُ  منتصباً  رغمَ  كهولتهِ  التي  تجاوزتْ  آلافَ  السنينَ  , وهو  يسافرُ  في  شرودٍ  طويلٍ  يرسمُ  أبعادهُ  عبَر  الزمنِ  المجهول ِ الذي  صبغتهُ  الحياةُ  بلونِ  النسيانِ  .
عيناهُ  قـد  ملأهما   غبـارُ  السنينِ  الثمانينَ   التي  أمضاها  كادحاً  في  هذه ِ الحياة ِ , غيرَ  أنهما  مازالتا  تبرقانِ  رغم َ الهالةِ  الضبابيةِ  التي  تحاولُ  أن  تخفتَ  من  شدةِ  هذا  البرقِ  .
إنَّ  الحياةَ  التي  عاشها  هذا  الرجلُ  أشبهُ  ما  تكونُ  بالدوامةِ  التي  تدخلُ  النهرَ  ؛ تبدأُ  صغيرةَ  المحورِ  ثم  لا  تلبثُ  أن  تتسعَ  أثناءَ  دورانها  حتى  تتلاشى  في  النهاية  دونَ  أن  تتركَ  أثراً  يدلُّ  على  وجودها  أو  تأثيرها  الذي  امتصهُ  تدفقُ  النهرِ  الجاري  ؛ والذي  لا  يعبأُ  بمثلِ  هذهِ  الدواماتِ  ,  فهو  يهدرُ  مسرعاً  لا  يثنيهِ  عزمُ  الخيالِ  عن  التقدمِ  في  طريقهِ  الذي  اختطهُ  لنفسهِ  بنفسهِ  .
إنَّ  الصورة َ الوحيدةَ  التي  ما تزالُ  في  ذاكرة ِ هذا  الرجلِ  هي  تلكَ  التي  حدثتْ  معهُ  في  أيام  شبابهِ  المنصرمِ، حيثُ  كانَ  فتياً  تتدفقُ  فيه  طاقةُ  الشبابِ  المتوهجةِ  , وتبرقُ  في  عينيهِ  نضارةُ  الحب ِّ السامي  .
تلكَ  الصورةُ  التي  زرعتها  فيهِ  جدتهُ  , وغرستها  في  أعماقِ  نفسهِ  لكي  تنضجَ  فيما  بعدُ  غراساً  باسقةً  , وثماراً  يانعةً  , فعندما  حدثتهُ  عن  فأسِ  جده ِ الحجريةِ  , قالتْ  له : " يا  ولدي  .. إنَ  هذهِ  الفأسَ  هي  أغلى  ما  تركَ لي جدكَ من ميراثٍ, وهي عندي تساوي  كنوزَ  الأرضِ.
هذهِ  الفأسُ  الحجريةُ  صنعها  جدك َ بيدهِ  من  الحجارة ِ السوداءِ  التي  كانتْ  في  أرضنا  , فهو  عندما  أرادَ  أن  يحرثَ  أرضَ  والده ِ لم  يكنْ  لديه  مالٌ  ليشتري  فأساً  ومجرفةً  , فكلُّ  الذي  تركهُ  له  والدهُ  هذهِ  الأرضُ  الجرداءُ  الممتلئةُ  بالحجارةِ  السوداءِ  , وكانَ  عليه  أن  يصلحها  حتى  نعيشَ  من  خيراتها  .
كانت  الحجارةُ  السوداءُ  غايةً  في  القسوة ِ , ومعَ  ذلك َ عملَ  جاهداً  كي  يخرجها  من  الأرضِ  حتى  تصبحَ  صالحةً  للزراعةِ  .
استغرقَ  منه  ذلكَ  وقتاً  طويلاً  , فقد  كانَ  يخرجُ  من  الصباحِ  الباكرِ  إلى  الأرضِ  ولا  يعودُ  حتى  يسدلَِ  الليلُ  ستائره ُ , وهو  مصممُ  على  استصلاحِ  الأرضِ  , وجعلها  مرتعاً  لأحلامهِ  الفياضةِ  .
وهذا  ما  حصلَ  , فقد  استطاعَ  أن  يصلحَ  الأرضَ  ويهيئها  للزراعةِ  , ولكنْ  كانَ  ينقصهُ  فأسٌ  للحراثةِ  , ولم  يكنْ  بمقدوره ِ أن  يشتريهِ  , فصنعَ  هذهِ  الفأسَ  التي  ترى  من  الحجارةِ  السوداء ِ التي  كانتْ  في  الأرض  , وهو  يقول : " ما  يحك  جلدك  غير  ضفرك "  .
هذهِ  العبارةُ  كانَ  دائماً  يرددها  , فقد  استطاعَ  هذا  " الضفر "  أن  يخططَ  الأرضَ  ويجعلَ  منها  لوحةً  رائعةَ  الجمالِ  أغدقتْ  علينا  من  ثمارها  , وفيأتنا  بظلالها , وهي الآن  كما  ترى  حياتنا  ..
يا  ولدي  .. إنَّ  هذهِ  الفأس َ وصيةُ جدكَ  لوالدكَ  الذي  مات َ وأنتَ  صغيرٌ  , وأنا  اليومَ  أضعها  في  يدك  كي  تصونها  وتحافظ  عليها  , فلولاها  ما  أنتجت  الأرضُ ولا  استطاعَ  جدكَ  أن  يبني  هذهِ  الدارَ  التي  نسكنها  , فهذه  الفأسُ  هي  الكنُز  الذي  أوصلنا  إلى  ما  نحنُ  فيهِ  الآن  من  رغدِ  العيشِ  , ورفاءِ  الحالِ  .... "  .
لقد  كانتْ  هذه  الوصيةُ  نقطةَ  انطلاقهِ  في  ميدانِ  الحياةِ  , والشعلةَ  التي  أضاءتْ  دربهُ  , غيَر  أن  تقادمَ  الزمنِ  وذبولَ  الإرادةِ  لديه  أبعدهُ  عنها  ليرميهِ  في  متاهاتٍ  أوصدتْ  في  وجهه  الأبوابَ  , وغلقتْ منافذَ  الشمسِ  في  عينيه  لتتركهُ  في  عمى  اللاوعي  .
واليومَ  ... وبعدَ  تكسّرِ  عجلاتِ  الزمنِ  به  تذكرَ  الفأسَ  , ووصيةَ  الجدةِ  , وأدركَ  أنَّ  الحالَ  التي  وصلَ  إليها  كانتْ  نتيجـةً  الإخـلالِ  بالوصيةِ  , و التخلي  عن  الكنزِ  الكبيرِ  الذي  خلفهُ  جدهُ  , فقد  ماتت  الأرضُ وتحولتْ  إلى  مرتعٍ  للهواءِ  يجوبُ  أطرافها  جيئةً  وذهاباً  , ويرسمُ  فيها  دوّاماتٍ  لا  تلبثُ  أن  تنقشعَ  مخلفةً  غبارَ  الأيامِ  الماضيةِ  .
أدركَ  بعدَ  فواتِ  الأوان ِ أنه : " ما  يحك  جلدك  غير  ضفرك "  , فأرادَ  أن  يصلحَ  ما  أفسده ُ الدهرُ  .
نهضَ  بجثتهِ  المتثاقلةِ  على  الأرض  ليبحثَ  عن  الفأسِ  , فهو  يذكرُ  أنه  قد  وضعها  في  صندوقٍ  قديمٍ  في  قبو  المنزلِ  .
عندما  نزلَ  إلى  القبو  تراءتْ  له  صورةُ  الجدةِ  والوصيةُ  , فاعتلتهُ  رعشةٌ  خفقَ  لها  جسمهُ  بكاملهِ  .
فتحَ  الصندوقَ  ورفعَ  الفأسَ  بيديهِ  , لكنّه  لم  يستطع  حملها  ... وقعتْ  .. وانكسرتْ  ...