أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الدنيا صغيرة

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 2,070
    المواضيع : 373
    الردود : 2070
    المعدل اليومي : 0.29

    افتراضي الدنيا صغيرة

    الدنيا صغيرة

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    سألت والدي رحمه الله تعالى وانا صبي مميز :
    ما اسم جدك يا أبي ؟
    قال : عبد القادر .
    قلت : واسمك " محمد قدري " وأنت أكبر من عمي " عبد القادر " ومن العادة أن يكون اسم الولد الأكبر على اسم جدّه ، وها أنت سميتني " عثمان " على اسم جدي لأني أكبر إخوتي ... فَلِماذا لم يكن اسمك " عبد القادر " ؟
    قال: سؤال وجيه وقصته تطول .
    قلت : ليس وراءنا شيء يا أبي ، وأنا أحب أن أعرف سبب تسميتك على غير ما اعتاد الناس .
    قال: أولاً حباً وكرامة ، وثانياً لا بد أن تعرف عاجلاً أم آجلاً .
    عمل جدّك عثمان – يا ولدي – رئيس مخفر برتبة مساعد في بداية القرن العشرين . ثم بدا له أن يستقيل فيعمل عملاً آخر ، ولكنّ الضابط (رئيسه في العمل ) نصحه أن يظل في سلك الشرطة ، فالحرب العالمية الأولى ( حرب السفر برلك ) على الأبواب . وحين تدخل الدولة العثمانية الحرب فسوف تجنّد ما تستطيع من الشباب ، وبقاؤه شرطياً خير له من سوقه إلى الجبهات في الأناضول وبلاد البلغار وغيرها من البلدان . والداخل فيها مفقود ، والخارج منها بعد طول العمر مولود . فلم يقبل جدك النصيحة واستقال من عمله .
    جدك أكبر أخويه " محمود ومحمد " وكان الثلاثة على أعتاب الزواج . فلم تمهل الحرب الأول والثاني فذهبا فيمن ذهب إلى جبهات الحرب . فكان جدك ممن سيق إلى حرب البلقان وشرق أوربا ، وانطلق محمد للقتال في اليمن . أما محمود فكان قد أصيب وهو صغير بإحدى عينيه ، فبقي بعين واحدة ، وهو بهذا لا يصلح للقتال ، فتركوه .
    ودامت الحرب أربع سنوات ، من سنة أربع عشرة وتسع مئة وألف ميلادية إلى العام الثامن عشر، وعاد من بقي حياً إلى بلده أو قريته يقص على الناس ما لاقاه في هذه السنوات العجاف .
    ومرت سنة كاملة لم يسمع فيها أحد شيئاً عن الشابين " عثمان ومحمد " فاعتقد أهلهما وأبناء حيهما أنهما في عداد القتلى – وما أكثرهم في هذه الحرب المدمرة التي أكلت الأخضر واليابس - فاحتسبوهما شهداء عند الله تعالى . فلما مرّ شهران آخران دخل جدك البيت على أمه ، فكانت فرحتها بعودته لا يماثلها فرح ، وكانت سعادتها كبيرة لا ينغص عليها سوى غياب الولد الثالث " محمد " ، ومرت سنوات ثلاث انقطع أمل عودته إليها ويئست من لقائه فاحتسبته فرطاً لها يوم القيامة .
    كان جدك عثمان قد تزوج وأنجب عمتك الكبيرة " قدرية " ، وكنت ثاني أولاد أبويّ ، فأراد أن يطلق عليّ اسم أبيه عبد القادر ، فأبت جدّتي أن يسميني إلا محمداً على اسم ولدها الذي فُجعت به . فلما أراد أن يقنعها أنه سيسمي الولد الثاني - إن جاء باسم أخيه - أبت بإصرار وبدا الغضب في وجهها واضحاً ، فتدخّل أحد وجهاء الأسرة ، فأرضى الطرفين حين رضيا اقتراحه أن يكون اسمي " محمد قدري " ، إلا أن جدك - كما علمتَ ياولدي - أطلق على أخي الثاني عمك " عبد القادر" اسم أبيه .
    حدث هذا في العشرينات من القرن الماضي حين تزوج جدي ورزق بأبنائه وبناته ، وقص والدي رحمه الله عليّ هذه القصة في بداية الستينات من القرن نفسه حين كنت فتى مميّزاً .
    وتمر الأيام ، ويعمل شقيقي " كمال " وهو ثاني أولاد أبي في اليمن الذي كان سعيداً يوماً ما – فالفقر وضعف الريال اليمني والحرب بين اليمنين الشمالي والجنوبي والحياة القاسية كان قاصماً لظهر أحبابنا هناك - وتزوّج في اليمن ، ورزق الأولاد والبنات . هاجر إليها عام ثمانين وتسع مئة وألف ، وما يزال مع أولاده عالقين هناك ، أو قل راغبين – على الرغم من شظف العيش وضآلة الدخل . فحب الوطن الذي درج الأولاد في ربوعه يطغى على كل وطن غيره .
    وفي يوم الفطر من شوال عام ألف وأربع مئة وخمسة وعشرين للهجرة المباركة الموافق عام ثلاثة بعد الألف الميلادية الثانية اتصلت بأخي " كمال " أهنئه بالعيد السعيد .
    قال لي :
    طرق بابي قبل أسبوع رجل يمني سبعيني ، قدم لي نفسه باسم " سالم الشامي " وقال :
    أأنت من آل " المكانسي " ؟
    قلت : نعم .
    قال : ومن حلب ؟
    قلت : نعم .
    قال : إن أبي من حلب واسمه " محمد مكانسي " وأخبرني أن له أخوين أكبرهما " عثمان "
    قلت : هو جدي .
    قال : والآخر اسمه محمود وأصيب بإحدى عينيه ، فهو يعيش بعين واحدة .
    قلت : أجل ، إنه عمّ والدي ..
    دعوته ، فدخل ، وفرحت به ، وكان حديثٌ طويل ، أخبرته فيه ماذكره الوالد رحمه الله لنا ، وقص هو عليّ أن والده هرب من الجيش العثماني ، ولجأ إلى إحدى القبائل اليمنية ، ثم طاب له العيش في اليمن ، واستقر فيه وتزوج ، وأنجب ولداً واحداً هو الرجل السبعيني الذي عرفني بنفسه وسررت بلقائه .
    لم يبق من إخوة أبي " محمد قدري " رحمه الله سوى الأخوين الصغيرين " أحمد وعبد العزيز " ، وهما الآن جدان في السبعينات أطال الله بقاءهما ورزقهما الصحة والعافية .
    اتصلت بهما مهنئاً بالعيد السعيد وقصصت عليهما ما جرى مع ابن أخيهما ، وقررا أن يسافرا إلى اليمن ليلتقيا ابن عمهما – الجديد القديم - الذي عاجله القدر بعد هذه الحادثة بأشهر قليلة ، فلم يُقَدّر لهما أن يرياه ، وأظن أن أخي على صلة بأبنائه .
    كان صديقي الأستاذ الأديب " محمد هدى قاطرجي " ينصت إليّ وأنا أقص عليه ما ذكرته لكم ، وكان معه آخرون فأخذهم العجب مما سمعوا إلا " محمد هدى " الذي قال :
    إن قصتي أشد غرابة وأكثر متعة من قصتك يا أبا حسان .
    قلت : هاتها يا أبا أسعد .
    قال : إن أخي أحمد – كما تعلمون - يعمل بائعاً للذهب في مة المكرمة منذ ثمانينات القرن الماضي ، وما يزال .
    قلنا : هذا صحيح .
    قال في حج ألف وأربع مئة واثنين وعشرين للهجرة ، الموافق تمام الألف الثانية للميلاد دخل مصري يشتري لزوجته سلسالاً ذهبياً بعد أدائهما فريضة الحج ، ودفع الثمن ، وكاد يخرج من الدكان ، إلا أنه التفت عائداً وطلب من أخي أن يكتب له " فاتورة البيع " فلعله يبيع قطعة الذهب في يوم ما .
    فقال له أخي : ما اسمك ؛ يا أخانا الفاضل ؟
    قال : " أحمد قاطرجي " .
    التفت إليه أخي متعجباً أن يذكر هذا الرجل اسمه وهو لا يعرفه ، وقال له :
    أريد اسمك يا أخ .
    قال المصري : أنا " أحمد قاطرجي " .
    قال أخي : وأنا كذلك " أحمد قاطرجي " ، فكيف اشتركنا بهذا الاسم ، وأنا حلبي وأنت مصري؟!
    قال : إن أبي من حلب ، واسمي هو اسم أبي الذي سافر إلى حلب - وأنا جنين في بطنها ، وهو لا يدري أنها حامل بي - ولم يعد . وكانت تحبه ، فأطلقت عليّ اسمه .
    فانطلق أخي بالرجل وزوجته إلى دارنا كي يتعرف عليه الوالد أطال الله عمره .
    قال المصري : إن أباه ساق من حلب ثمانية خيول أصيلة إلى مصر في ثلاثينات القرن الميلادي الماضي ، باعها من الملك فؤاد الذي لم يعطه ثمنها إلا بعد ثمانية أشهر ، وكان يسكن طيلة تلك المدة في بيت رجل رأى في هذا الحلبي أدباً وخُلُقاً ، فزوجه من ابنته ، فبقي معها شهرين حين استلم ثمن الخيول ، فطلب إلى زوجته أن تذهب معه إلى حلب ، فأبت قائلة : إن كنت تحبني فابق هنا في القاهرة .
    لكنّ ثمن الخيول أمانة في عنقه يريد أن يؤديها إلى أصحابها ، فسافر إلى حلب ، ولم يعد .
    أما الشيخ " أسعد " أبو محمد هدى " ، فقد قال : إن عمّه " أحمد قاطرجي " أدى الأمانة لأصحابها ، وكان يجهّز نفسه للعودة إلى مصر ،وأخبر أهله أنه قد يعود إلى حلب ، وقد لا يعود ، إلا أنه لم يخبرهم أنه تزوج هناك . إلا أنّ القدر عاجله ، فلم يلبث يسيراً حتى لاقى ربه ، وبقي السرّ سرّاً . فلم ينكشف إلا بعد عشرات السنوات .،
    وكان السرور باللقاء كبيراً ، وكان أكبرَ في قلب المصري الذي تعرَف َعشيرته وأهله .

    صباح الثلاثاء : 17- 03-009

  2. #2
    الصورة الرمزية مازن لبابيدي
    شاعر
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Mar 2008
    الدولة : أبو ظبي
    العمر : 65
    المشاركات : 8,916
    المواضيع : 157
    الردود : 8916
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    د. عثمان مكانسي
    أشكرك لمشاركتنا في هذه القصة الرائعة ، ومن الواقع ما هو أعجب من الخيال القصصي .
    يا شام إني والأقدار مبرمة /// ما لي سواك قبيل الموت منقلب

  3. #3
    الصورة الرمزية آمال المصري
    عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,995
    المواضيع : 418
    الردود : 23995
    المعدل اليومي : 3.80

    افتراضي

    السيد الفاضل د . عثمان
    استمتعت وأنا أقرأ هذا الموقف الحواري الرائع
    لكن وجدت أن مكانه استراحة الواحة وليس قسم القصة
    جلَّ الاحترام
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. (ليست الدنيا لمثلي موطنا) ردٌ على قصيدة (موطني الدنيا) للشاعر الفاضل:جورج جريس فرح
    بواسطة سعد بن ثقل العجمي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 28-07-2010, 12:52 PM
  2. أحمق ... وأحلام صغيرة
    بواسطة مهند صلاحات في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 12-11-2005, 07:18 AM
  3. كلمة صغيرة إلى طفل كبير
    بواسطة سهيل عيساوي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 20-04-2005, 03:03 AM
  4. خلل وراثي عند طفلة صغيرة (ما رأيك يا دكتور محمد صنديد)
    بواسطة عدنان أحمد البحيصي في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 12-04-2005, 12:29 PM
  5. أشياء صغيرة حتى يبقى الحب...!!!
    بواسطة ابو دعاء في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-08-2003, 06:02 AM