استقيموا يرحمكم الله !!
--------------------
ماكاد الشيخ برعى يرفع يديه عالياً بجوار أذنيه مكبراً ليبدأ صلاة الجماعة حتى وقع فى ظنه أنه ليس على وضوء، صحيح أنه خرج لتوه من الميضأة،وأنه نثر الماء على أعضائه عضواً عضواًفى تؤدة وأناة كما يفعل دائماً إلا أنه حين همّ بالخروج ورفع ساقه إلى أعلى ليضعها على أول الحصير الذى يستقبل الخارجين من الميضأة تعثر وأختلّ توازنه وهاجمته نوبة من السعال شديدة ظن بعدها أن ريحاً بسيطاً قد خرج منه على غير إرادة ،سرعان ماتناساه حين وجد مريديه وقد وقفوا صفوفاً إستعداداً لبدء الصلاة التى بدا أن وقتها قد حان منذ دقائق حين رفع أحد الوقوف بصره إلى الساعة المعلقة أعلى المحراب وكأنما ليستحث الشيخ على الإسراع، وعلى الفور أقام آخر الصلاة بصوت عالٍ سمعه كل الحضور.
أسرع الشيخ الخطى حين انحسر الجمع الواقف ليوسع له طريقاً للمرور إلى مقدمة الصفوف حيث تعود أن يقف إماماً للمصلين، ألتفت يمنة ويسرة ثم إلى موضع قدميه قبل أن يهتف هتافه المعتاد:
- استقيموا يرحمكم الله.
فى تلك اللحظة بالذات لمح الشيخ برعى الحاج عباس العترة يقف فى أول صف للمصلين وقد غطت عباءته الفضفاضة جسده بالكامل ووضع طاقيته الشبيكة ناصعة البياض فبدا منظره مهيباً خاصة وأنه ومنذ عاد من آداء فريضة الحج يحرص على الخروج لكل صلاة على هذه الهيئة التى اكتسبها بعباءته وطاقيته وكأنهما أعلام ترتفع لتعلن للناس التقوى والورع وأنه قد أدى فريضة الحج التى لم يؤدها الشيخ برعى نفسه لضيق ذات اليد.
تضايق برعى حين لمح الحاج عباس والذى يجعل من أوقات الصلاة فرصة للظهور ويدع القوم يتدافعون إليه مسلمين وهم يدفعونه برفق ليأخذ مكانه فى الصف الأول وخلف الشيخ برعى مباشرة ففى كل مرة يقف عباس خلفه يشعربرعى أن عينيه مصوبتين إلى قفاه وأنه لابد يحدث نفسه بأنه أولى منه بالإمامة فهو قد أكمل أركان الدين جميعاً ويحفظ من أجزاء القرآن أكثر ممايحفظ الشيخ برعى نفسه بل ربما كان يحدث الناس بذلك وإلا كيف يحظى بهذه المكانة العالية .
أسرع برعى بطرد ذلك الخاطر اللعين وتلك المشاعر المغتاظة ولكنه لم يعرف كيف يتخلص من الإحساس بأن الرجل يتمنع فى كل مرة حتى يلح عليه الناس فينتهى به المطاف إلى ذلك الموضع وكأنما ليصبح على مبعدة خطوة واحدة من مكان الإمام حتى إذا تغيب الشيخ لأى عذر قفز إلى مكانه وفاز بالمكافأة الشهرية التى قررتها وزارة الأوقاف لمقيم الشعائر والتى يعتمد عليها برعى تماماً فى إقامة حياته.
بعد أن هتف برعى هتافه المعتاد داعياً المصلين للإستقامة ورفع يديه إلى أعلى هاجمه ذلك الخاطر اللعين بأنه ليس على وضوء وظنّ أن عليه ان يترك مكانه لعباس ثم يذهب ليعيد الوضوء من جديد لكنّ إحساساً داخلياً أشد من أن يقاوم دفعه للتشبث والبقاء ، وداهمته الأفكار وهو يتلو فاتحة الكتاب بطريقة آلية ، كانت تلك الأفكار تحاول أن تسعفه بما ينبغى عليه أن يفعل بينما صوته يرتفع بالقراءة فلم يعد يسمع إلاصوته وهو يتلو الفاتحة بينما ساد الصمت جنبات المسجد.
هل يخرج من صلاته؟ هل يقف فجأة ليعتذر للجمع الواقف وراءه فى خشوع ويعلن بوضوح أنه ليس على وضوء؟ وماذا سيقول عباس ساعتها للمصلين؟ ألن يصبح أضحوكة الجميع وحديث المجالس لسنوات قادمة وربما لأجيال وأجيال؟ الحاج عباس يقف الآن على الأقل فى الصف الأول بينما سيكون عليه إذا حدث مايطيح بمكانته أن يتوارى فى الصفوف الخلفية وساعتها سيتقدم عباس بعباءته الفضفاضة وطاقيته الشبيكة ناصعة البياض ليؤم الناس وسيكون من حقه ساعتها أن يعلن أنه الأحق والأجدر بهذه المكانة السامية.
حين وصلت أفكار الشيخ برعى إلى هذا الحد كان قد سيطر عليه شعور طاغ ٍ بضرورة الإستمرار مهما كلّفه ذلك من عنت، صحيح أنه أخطأ فى التلاوة مرتين وردّه عباس بصوت عال ٍ ارتجت له جنبات المسجد مع أنه كان يتلو من قصار السور إلا أنه استمرّ فى القراءة والصلاة دون أن ينجح فى صرف شواغله، ركع وسجد وقام عدة مرات دون أن يفطن إلى مايفعل وقد استقرّ فى وجدانه أنه لابد من التشبث بمكانه ومكانته وأنه لن يدع فرصة ليلوك الناس سيرته ويتغامزون عليه فى ذهابه وإيابه، ومن يدرى ربما أطلقوا عليه أسماً حركياً من تلك الأسماء التى اعتادوا إطلاقها على البعض فتصبح شفرة مايكاد الواحد ينطق بها حتى ينفجر الجمع فى ضحك منه دون أن يدرى أنه موضع سخريتهم واستهزائهم.
اطمأن الشيخ برعى لذلك الخاطر الأخير وقرر الإستمرار فى الصلاة إلى نهايتها وليكن مايكون ولسوف يستغفر بعدها ربه ماشاء له الإستغفار، بل ولسوف يعيد صلاته سراً حين يعود إلى بيته ، ولكن ماذا عن صلاة المأمومين خلفه؟ أليس يعلم أنه يتحمل الوزر عنهم جميعاً؟ فماذنب المصلى إذا لم يكن إمامه على وضوء؟ استبد به القلق من جديد وراح يزن الإثم الذى أوقع نفسه فيه بمكابرته وعناده، دخل إلى الصلاة لتقربه من ربه فإذا هى تحمّله أوزاره وأوزار من معه ولكن ألا يهون ذلك أمام فضيحة تسير بها الركبان؟
أسرع برعى فاستكمل الصلاة على عجل كمن يهرب من عفريت يطارده والناس خلفه يلهثون من إيقاعها المتسارع،ثم سلّم وجلس كعادنه ليواجه المصلين بينما سرت همهمات تتساءل عما جرى للشيخ وغرق هو فى تأملاته وقد نكّس رأسه بينما أخذت أصابعه تلعب بحبات المسبحة دون وعى وأفاق على يد ٍممتدة إليه لتصافحه وسمع صوتاً يعرفه جيداً يقول أثناء المصافحة:
- تقبّل الله
نظر فى عينى عباس كالمغيّب وتمتم:
- تقبل الله منّا ومنكم.
***************
دكتور محمد فؤاد منصور
الأسكندرية