-
سُحْــقاً...لذاك الديك!
نَهَضَتْ باكرا كالعادة...كنَسَتْ "حَوْشَ" البهائم الفسيح من ترسُّبات رمال الزوابع التي أَغرقَت الواحةَ ليلة البارحة...حَلَبَتْ الناقة والعنزتين، ثم انحنتْ على سَلّة الثياب تتفقَّدُها، فوجدتها تَعجُّ "بقَنادير" و سَراويل و "شِيشان" الشيخ العجوز الذي ما بَخِل عليها يوما بشيء منذ زواجها، ولطالما عاملها برأفة-كابْنَةٍ منَ الصّلب لا كَكَنّةٍ-
بينما أطلَّتْ من الكَوْمة "جَبَّةٌ" عريــضة فضفــاضة للعجوز زوجتِه، ولَكَمْ كانت شديدة الاتساخ والدَّنَس! حتى إن لونها بعد المَنْزَع كان يُضاهي رمادَ الكانون دكانة، بعد أن كان يماثل لون الثلوج نصاعة و تلألؤا قبل المَلْبَس.
فتناولتها بتقزز، ورمت بها في القصعة النحاسية...وبكثير من الإصرار اسْتهلَّتْ بها دون غيرها.
وكانت كلما غمسَتْها في المياه الحارة كلما استحْضَرَ اللاشعورُ لقطات أليمة من مؤامرة جهنمية دبَّرَتْها لها، أو مَكيدة صهيونية حِيكَتْ في غيابها، وما الواصل الوحيد بين 'تلك' و'هذه' غير ضرب مُبَرّح من البَعْل كل ليلة، ومعيشةٍ ضَنْكٍ على شفير حفرة من أبغض الحلال إلى الله عَقِبَ كلِّ شجار.
فكانت تستشعِر وَخْزا حادا مُوجِعا في القلب، لا يحُثُّها إلا على مضاعفة الدَّلك والرَّفْسِ بالأرجل والانتشاء بمرْأى الفقاقيع تتكاثف و تتسايلُ على حواف القصعة كلعاب كلب مسعور...أو كسكاكر شعر البنات الحلوة، واللَّطْمِ بقالَبِ الصابون'الحجري' الذي ولَوْلا انتحاره بين مسام هذه الجبة العَفِنَة ومشارفته على الفناء فوقها، لما حال حائل بينه وبين ردِّ أَسْمال قبيلة كاملة من المتشردين القذرين، ثيابا فاخرة 'طُوبِيَّة'
وانْهَمَكَتْ في الحَكِّ حتى ما تبقّى في العضلات من قوة وكادت تنسى رزمة العجوز،
فتناولتها بحنان، وجعلت تَغمِسُها في المياه الفاترة برِفق حتى لا تتبدّد صبغاتها، وبالكاد تحرِّكها برؤوس الأصابع وترفعها، لتُعيدَ غمسَها في المياه النقية، وهي تستشهد في الوقت عينه بمواقفَ رجولية قابلها بها، وحنانٍ أبوي صادق حَباها به، فَيُوخزُ القلبُ من جديد ولكن..وَخْزا لذيذا موهِنا هذه المرة.
فَتَسْهو طويـــلا...وتتزاحم العَبَراتُ في عيونها...وتستسلم اليدان طَواعِيةً إلى شلَل احترام طويل و تَهْمِس:
ـ "شَيْخيَ" المسكين...كم يُحبني!...كم يُوَقِّرُني!...كم يُجِلُّني!
فأنَّى لي الآن بتلك الجُرأة التي تُؤهِّلُني للعبَث بأشيائه وعصْرِها؟ ولستُ أَخالُنِي في حقيقة الأمر إلا مصادقة-وبِشناعةٍ-على عَصْرِ عُنقه بدلا عنها.
ـ بينما تلك...((شَيـْبَةْ النّــــار)) ...
وتعود لإقحام الجبَّة ثانية في القصعة بعد أن أوشكت على نشرها لتَجفَّ منذ هنيهة.
وفي المساء...
كانت العجوز المتأنِّقة في جبَّتها البيضاء، تنظرُ إلى الكَنَّةِ المَحْمومة من التعب بالكثير من الرَّأْفة، وتُعِدُّ لها شرابا ساخنا يُزيل نَزْلَةَ بَرْدها ويُخَفِّف من صداعها، وتنتقي لها عبارة توجز فيها ندمها واعتذارها، لتزُفها إليها عند استيقاظها...
بينما...أخفى العجوز العائد من السوق-لِتَوِّه-علبةَ الحِنّاءِ، وقارورة المِسك، وحزمةَ السِّواك، والمناديل "الشَّامية" في جيب "قَشّابَتِه"، وهو يتطلَّعُ في السٍّروال المشَرِّف الوحيد الذي يبدو من سيماهُ أنه لن يقابل به أشراف القبيلة الليلةَ -مثلما خطط- في مراسيم ختان جماعي لأبناء فقرائها، وذلك بعد إقرار بُقًع 'زيت النَّعَام' المُتَوَغِّلة عميـقا في قماشه، وتصريح آثار أوحال الطريق المتجمعة هنالك في سفحه على أنه أ-بـ-دا! ما نال قسطه من الغسيل، بخلاف ما توحي به ملامحُ "الحرباء" مُتَصنِّعَةِ العياءِ في الفراش.
فحَوَّلَ المسار هذه المرة من مَخْدع الكنَّة، إلى عشيرة ابنته البكر؛ إذ ما اكتشف فائق إساءته إليها قبل هذه الواقعة، وذلك بعد أن حازت 'الدّخيلةُ' على كامل الاهتمام والرعاية.
ومضى...وهو يتأبَّطُ الهَديّة، وينأى بعيدا عن نخيل الواحة ويُغَمْغِم..:
تبّا لديكٍ تُعيلُهُ الدَّهرَ بأسره..وتَضْمُر، لتراه يَكْبُر..
بينما لا يُجازيكَ ليلةَ الذَّبْحِ إلا بعظام كالرِّماح تَتَعَرَّقـُها، ومَرَقٍ كالودْق
لا نَكهةَ له..
فلا شِبَع..
ولا سُرُور..
ولا جدال في الأمر!
إيييـــــــــــــــــــــ ـــــــهْ!
لا فضَّ فمُ القائلِ:
أخـاك أخـاك، ولا يَغررنك الصَّحبُ اللُّؤَمـــــــــــــــــ ـــــــــاءْ.
ملاحظة:
شَيْبَة النّارْ: لفظ بالدارجة الجزائرية تستعمله عادة الكّنات لشتم أمهات أزواجهن