همسة:
أرجو أن تسامحوني على الأسلوب الركيك , ولكني كتبتها منذ فترة
وأسلوبي كان أضعف , ولصغر سني أيضاَ , فإن عمري ثلاث عشرة سنة فقط.




قرر ذلك الأب , أن ينوم ابنه , بغير مساعدة أمه , فقال له قصة من ماضيه , عندما كان طفلاً:

رأيته , هو ذاك العجوز , كان يسري نحو البحر , تعجبت مما يفعله , لأن الموسم موسم الشتاء.
جلس بمحاذاة الماء , ونفحات من نسيم البحر , كانت تأتي , وكأنها ريح من رياح الجنة.
تمعنت بالنظر إليه , فلحظت الدمع يذرف بغزارة من مقلتيه , وزاد من تعجبي وحيرتي , فقررت الذهاب إليه , علي أفهم ما الكنه الذي يبكيه , وما الكنه الرئيسي الذي جعله يأتي إلى هذا المكان الشديد البرودة , وهو كهل كبير ,
فقلت له: السلام عليكم.
فشاح بوجهه , ثم رمقني رمقة واهنة , ارتسمت على قسمات محياه الأجعد , بسمة ليس بها من روح البسمة شيئاً , فقد يكون مصدرها هو استرداد الذاكرة ماضيها , حينما كان صغيراً.
فرد قائلاً: وعليكم السلام , ما الذي جاء بك إلى هنا , رغم برد الشتاء.
قلت له: أنت , نعم أنت من جاء بي إلى هنا , فإنك كبير السن , وليس من المفترض أن يكون هذا مكانك.
قال: هيه , تقال هذه الكلمات من شفاه بريئة , لا تعلم ما ماضي الكهل الذي أمامها.
قلت: صحيح , إني لا أعرف عنك أي شيء , سوى أنك كهل كبير , وأن هذا الجو سيأتيك بالحمى.
قال: لا , اعتدت على برودة الشتاء , وحرارة الصيف.
قلت بتعجب: أتأتي كل يوم إلى هنا ؟!
قال: نعم.
قلت: غريب ! , لا بد من أن لك ماضياً أجهله , أرجوك قل لي عن حياتك.
قال: حياتي ! , ولماذا تريد أن تعرفها ؟!
قلت: لأني أحب أن أعرف كل مجهول.
قال: ولكن أحياناً , معرفة المجهول قد تؤذي مشاعرنا.
قلت: إلا أننا إن لم نعرفه , سنبقى عائشين في وهم.
قال: ولكن أنفسنا وألبابنا وقلوبنا , ألن تحرق حرقاً على حقيقة كنا بالماضي مرتاحين منها ؟!
قلت: كل منا سيبقى على رأيه , أرجوك قل لي عن حياتك.
قال: بما أن الإصرار يملكك , سوف أقول لك بشرط.
قلت: وما هو ؟!
قال: أن لا تفشي هذا السر , لأنه سر لا أريد أحداً أن يعرفه.
قلت: بالطبع لن أفشيه.
نظر إلى العنان فامتد بصره إلى السديم , الذي دثر غيهب الليل , فأضفى للمكان راحة وجمالاً , ثم شاح بناظريه تجاه البحر وبدأ بقول مسيرة حياته: عندما كنت طفلاً , وهي أجمل مرحلة من مراحل حياتي , كنت أسعد طفل بالعالم , الأصغر في بيتي.
قلت مقاطعاً: أصحيح , أنت الأصغر ؟!
قال: نعم.
ثم أكمل قائلاً: لم أطلب شيئاً إلا ويصلني , تعودت على الترف وهناءة العيش , كنت أُضرب من قبل أصدقائي , فأبكي , وأقول لأخي الذي يكبرني بعشر سنوات , عن الشخص الذي ضربني , ويذهب له ليضربه , كانت أمي أحن وألطف إنسانة بالكون كله بنظري , أحببتها ولا أزال وسأبقى , فهي التي سهدت علي في عتمة الليل , ونور الصباح , إلا .. إلا أنها أخطأت بشيء وهو أنها دللتني دلالاً مفرطاً , ولكن لا تثريب عليها , فأنا الذي أتيت بعد انتظار ثمانية أعوام , أما أبي فكان يحبني , وينصحني إن أخطأت , فهو الوالد الحاث الناصح , هكذا هي طفولتي.
كبرت وأصبحت في سن المراهقة , مراهقتي جميلة على نحو ما , لكثرة أصدقائي.
في يوم من الأيام عندما كنت في طريقي إلى منزلي , رمقت فتاة كالملاك , حباها الله بجمال كجمال يوسف , هي فتنتة لكل رجل , ونار تحرق فؤاد كل امرأة , فالرجل يحب جمال المرأة , أما المرأة فلا تحب جمالاً حبيت به فتاة تماثلها , فهي من تريد سحر ألباب الرجال.
تبعتها إلى منزلها فحفظت أين مكانه , وبدأت أتردد بين الفينة والأخرى إليه , وحلمي هو أن أرى الملاك الذي رأيته يوماً ما.
أعاد لي القدر المشهد الذي حصل قبل مدة , فرأيتها تمشي أمامي , ونظرت لها , فرمقتني رمقتها الأولى وأعادت النظر إلى الأسفل , وبقت عيناي معلقة النظر إليها , نظرت إلي مرة أخرى ووجدت نظرتي كما هي بل زادت شوقاً وحنيناً , فتوقفت في مكانها , تعجبت من فعلها , قالت لي: لمَ تنظر لي ؟
فقلت: إني أنظر إلى جمال مشكل على هيئة فتاة !
قالت: حقاً ؟! , تفوه بهذه الجملة الكثير الكثير , وأنت واحد منهم , أرجوك دعني في حال سبيلي.
قلت: إني لست كهؤلاء الذين يجرون لاهثين وراء شهواتهم وغرائزهم وهواهم , إني أحببتك من أول نظرة.
قالت: أصحيح ما تقوله ؟!
قلت: ولماذا أكذب ؟!
قالت: لكي تطيح بي بشباكك.
قلت: قلتِ لكِ لست كالباقين.
قالت: أمتأكد ؟! , سوف أختبرك , إن كنت صادقاً فسوف أرضى بك أعز صديق , وإن كنت كاذباً فاتركني , قل لي , هل تكذب أم لا ؟ , انظر لعينيَّ وجاوب.
فنظرت بعينيها وقلت: والذي نفسي بيده , لم أكذب ولا بحرف واحد مما قلته.
قالت: إذن , سأرضى بك صديقاً.
وفتحت العقدة ذات الربطة الواهية.
فبدأت أتجاذب معها أطراف الحديث , وأقول لها ما هو طريف وظريف , وما هو مهم وما هو غير مهم , إلى أن وصلنا إلى نهاية الزقاق , فودعتها وودعتني.
بدأت علاقتنا تزداد يوماً بعد آخر , حتى أقبلنا على آخر سنة مدرسية , كانت تدرس ليل نهار , أما أنا فكان معدل دراستي قليلاً إلى حد ما , وعندما انتهت السنة
هي أحرزت 97.5
ونسبتي كانت 71.2
كان كل شيء أمامها مفتوح الأبواب , أما أنا فكل الأبواب موصدة بوجهي , إلا ثلة قليلة
فدخلت تخصصاً بسيطاً.
لم أعلم ما خبأه القدر لي , فقد كانت صدمة كبيرة واجهتها , وهي أن نصف روحي سوف تذهب لديار أخرى للدراسة , حيث أن جميع تخصصات الطب موجودة هناك.
صعقت بالبداية ولكني تقبلت الوضع بعدها , لأنها ستحقق حلماً جسيماً بالنسبة لها.
وعدتني ووعدتها بأن الرسائل لن تقف بيننا أبداً , وهذا ما حصل , فلا يمر أسبوع حتى أرسل لها رسالة , ولا يمر يوم إلا وأرى منها رد على رسالتي , بعد مدة قلت الرسائل بنحو كبير , ثم أصبحت بالشهر مرة واحدة , وفجأة انقطعت انقطاعاً نهائياً , كان قلبي لا ينام رغم نوم جسدي , فكنت دائم التفكير بها , لدرجة أنها أصبحت هاجسي الأول والأخير.
حان الموعد المرتجى , فذهبت في صبيحة ذلك اليوم إلى المطار , بقيت منتظراً تسع ساعات وبعد هذا الانتظار , أبصرت تلك الفتاة الجميلة التي تشبه ملاكي , ففرحت جداً , وذهبت إليها , لكنها ليست هي , فيئست وعجت أدراجي.
بعد يومين من يوم ذهابي إلى المطار , قررت الذهاب إلى حامل أحزاني وصديق الوفي , إنه البحر , أحس عندما أكون بقربه , أني قاطن بمدينة نائية , خاوية من البشر , فجلست كجلستي هذه , بقيت ساعتين ثم قررت الذهاب , فأبصرت فتاة متدثرة بثوب أسود , ذات وجه أبيض , ذا وجنتين حمراوين كزهر الجوري , وقوام ممشوق كغزال الريم , عندما اقتربت ألفت هذا الوجه أكثر , فنهضت من مكاني ونفضت الثرى عن يدي , واقتربت , ثم اقتربت , فاقتربت أكثر , فإذا .. فإذا هي ملاكي , ذهبت وضممتها , فأبعدتني وقلت لها: ولماذا تدفعيني , ألست الحبيب ؟!
قالت بارتباك: إني .. إني ارتبطت.
ففتحت عيناي , حتى كادتا أن تسقطا من محجريهما , وتحولت قسمات وجهي من الفرح , إلى قسمات وجه ليث يريد افتراس فريسته , فمسكتها من عنقها والدموع تملأ مقلتي وقلت: ماذا قلتِ ؟! , ماذا قلتِ ؟!
وبدأت بخنقها أكثر
وهي تحاول إبعادي وأنا أردد مراراً وتكراراً "ماذا قلتِ ؟!"
وترد علي بصوت متحشرج بالكاد يسمع: ارتبطت .. اتركني .. ا .. ا .. اتركني.
فضغطت بقوة فأصبح وجهها احمر ثم تحول إلى الأزرق , وهي تختنق وتختنق , وأنا أنظر إليها نظرة مجنون , إلى .. إلى
بكى الرجل عندما قال هذه الكلمات ثم أكمل: إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة
وقالت قبل أن تموت: إني أحبك وسأبقى كذلك.
ولقيت أجلها المحتوم , ففككت يدي عن عنقها , فإذا هي تسقط جثة هامدة , قتلت شهيدة ممن أحبت.
بدأت أنحب بحرقة , فحضنتها , وكنت أقول: لا .. لا تموتي .. إني أحبكِ , لا ترحلي وتتركيني.
وصل الخبر إلى الشرطة , فجاءوا بشرعة وقبضوا علي
, وإذا بالمحكمة تحكم بخمس وعشرين عاماً , وكان عمري ست وعشرين سنة ,
فأمضيت خمساً وعشرين عاماً, حياة كاملة في مكان موصد الأبواب , كانت زيارة أهلي لي بالبداية كثيرة , إلا أنها قلت مع الزمن.
خرجت قبل عشرين سنة , وحتى الآن أنا أزور هذا الشاطئ , الذي قتلت به أعز نفس على قلبي , وحب حياتي , ونصف روحي , هذه هي قصة حياتي كاملة من الألف إلى الياء.
فقلت بتعجب: ياه ! .. ما أغرب حياتك ! , من يراك لا يتوقع لكهل مثلك كل هذه المسيرة المليئة بالأحداث , التي تأسر القلوب والمشاعر.
قال: قد تكون كلماتك صحيحة.
قلت: أللآن تحبها ؟!
اغرورقت مقلتا العجوز وقال: لا تفتح جرحاً لم يلتئم بعد , أرجوك لا تذكرني بالماضي أكثر.
قلت: آسف , لم أقصد أن أهيج مشاعرك الجياشة تجاه الماضي.
قال: لا عليك.
صمتنا لبرهة ثم قال: لقد أسدلت خيوط الصباح , وعلي الذهاب , اذهب أنت أيضاً.
قلت: طيب , وداعاً
فقال: وداعاً.
وذهب في حال سبيله.

قال الصغير باستياء: أبي , ما هذه القصة ؟! , إنها للكبار , وأنا أريد قصة أستطيع فهمها.
فاستسلم الأب لواقع الحال وقال لأمه: تعالي يا أم هذا الطفل , الذي لم تعجبه قصتي.
فقالت له والبسمة مرتسمة على شفتيها: أولم أقل لك ؟!


تمت ,,,
بـ21ـقـ3ـلـمـ2010ـي.