….. بَدأتْ خُيوطُ الفجر تتسللُ عبرَّ عناقيدِ العنب لِتَسرِق العَتمةُ وتُضيءُ المكان
فَيتناهى إلى أُذني زَقزقةُ عَصَافيروتغرِيدُ عَنادِل معلنةً تحيةُ الصباحِ بأجملِ الألحانِ .
هناكَ في الركنِ خزانٌ من المياهِ ينتهي بأسفلهِ حوضٌ كبير شيدتّه أمّي ببراعةٍ
من الحجرِ والإِسمَنت تتراقصُ في مياههِ النقية أنواعٌ كثيرة من الاسماكِ
والأحياءِ المائيةِ التي آلفناها كأفرادٍ من العائلةِ يعلوُّهُ شبكٌ حديديٌّ لحمايةِ
ساكنيهِ منَّ القططِ المرابطةِ .
تتسربُ مِنْ أسلفة مياةٌ رَسَمتْ سيلاً متعرجاً أبدعتهُ أُمّي على شَكلِ ثعبانٍ يزحف
تتقافزُعلى أطرافهِ أنواعٌ من الضفادعِ وتختبيءُ على ضِفَتيةِ بعضٌ من السلاحفِ
وَعندما تَختَلِطُ أصواتُ الدجاج والبط والحمام أعرفُ بأنَّ وجبةَ الصباحِ قد بدأتْ
بإلتقاطِ حبوبِ القَمحِ المتناثرةِ التي اعتادتْ أُمّي نَثرَها فَجَرَ كلِ يومٍ رِفقاً بالطيورِ ..
يالِروعَةِ المنظر ويالسحرِ الطبيعة هاهي تجثمُ أمامَ فِراشي طاولةٌ مِنْ خَشَبِ البلوطِ
الهَرِم المتأكل تعلوُّ وَجهَها خرابيشٌ ونقوشٌ تصورُ الزمانَ وَتَحكي قِصَصَ الأَجداد
وذكريات الطُفُولة ...
لَنْ أَنْسَى حَنانَ أُمِّي وَلَمْسةَ أَبْي وَأَهْل الدارْ ..
زيتونَ أُمِّي وَشَجَر الكينَّا وَوَرَق الغارْ ..
بَساتينُ الخَيرِ شَجَرَ اللوزِ والصبارْ ...
لَنْ أنْسَى كأسَ الحليبِ وَخُبْز التنورْ ..
شَجَر التينِ والزَهر المنثورْ ....
لَنْ أنْسَى عِنادَ جَدّي وَشقاوَةَ أخي ...
قِصَصَ الجيرانِ ودَلالَ أُختي ...
ماأروعَها من أيام وياسحرَ البساطةِ..
وماأنْ لمحتُ تلكَ الثُريا المتدليةِ منَّ السقفِ حتى أدْرَكتُ أنني في حلمٍ إلا إنَّ الحنينَ
شدَّني ورجفةٌ من الشوقِ اعترتني فَلمْ أَجدْ بُداً من إفتراشِ مائدة الشوق واستحضار
أدواتِ الحنين والتضرع لقملي أن ينزفَ رثاءً ووفاءً لأمي وذاكَ الزمنُ الجميل .
إلا أني أثرتُ أن أكتبَ بما يكتبُ البشر فمن أَضْلُعي استعرتُ القلم وَمِنْ
دَمّي مَزَجتُ الحِبْرَ ورجوتُ حروفي أَنْ تلتهبَ ناراً لتصورَ شوقي وأن تبحرَ
في شَرَاييني لتنثرَ حُروفِّي وُرودَاً حَمراءْ على ذاكَ المُستَطيلُ الأبيضُ فَتُشكل
لوحةٌ ورديةٌ رائعةٌ أُذيلها بتوقيعٍ ( لَيتَّ الزَمَانَ يَعُودُ )
ولكي يكتملَ المشهدُ كانَ لابدَ من قهوةِ الصباحِ هاهي أَمامِّي لَكنْ ماأذهلَني أنها
أعْلَنتها مدوية عبرَّ بُخارِها الذيِّ رسمَّ جملة تُقرأ
( فَقَطْ أَنْا أَصْلُحُ لكلِ زمانٍ وَمَكان ) |