لأول مــــــــــــــــــــــرة ..
كنت أنام مبكرة ولا أسهر لساعات الصباح الأولى ..
أرقب نهايات الليل .. وانكماش الغسق .. وإيماضات الفجر الضاحك عندما يتسلل بهدوء لأنسجة سمائي الحالمة ..
فوق الشرفات والشبابيك الملونة تنثر صمتها الضبابي حلم مصلوب على صدر جذع خادر ..
كاحتفال الروح في غياهب عروق موشحة بأهازيج حب جديد ..
فأنا أسكن في مدينة ليست بساهرة كما المدن الأخرى ..
تغيرت وانكشفت أمور عدة عن زمان مسيرات أفراحنا الأولى وسكون أحزاننا الأخيرة ..فمدينتي لم تتقن السهر بعد كسائر المدن اللعوب ..
أصبحت مدينة صمت تغفو كل يوم بعد آذان العشاء مثل حمامة على غصن شجرة غافلة تنتظر أصوات قد تنفجر .. ورياح قد تهب ..
وادعة على أحلامها ترفض الهجرة والموت والمنفى معا ..
وأنـــــــــــــــــــــا بذات هذا الزمن لم يكن من عاداتي النوم في مثل هذا الوقت ..
في محاولة مني لقتل الكسل الذي يسكنني من فترة لأخرى بل صار رفيقي الملازم دون معرفة إحساس لهذا السبب الطارئ ..
بقيت أتململ في فراشي ربما لدقائق
أفكر في ..................
لاشيء .. فقط ساكنة تسرح عيني في فضاء غرفتي الهادئة ..كنت أشعر خلال حركة عيني بدوامات ألم وتعب يحتل كل أجزاء جسمي ولا أتذكر لماذا
حاولت النهوض على يدي فأحسست بصعقة انتابت إدراكي ..نظرت ليدي كانت لفافات من القماش الأبيض تتدثر بها وبدأت نجوم مضيئة تتراقص أمام عيني ،إذن أنا أعاني من كسر في يدي وقدمي أيضا ونوبة من الدوار ..
فأسترجعت ذاكرتي أسباب نومي الباكر ....
فقبل يوم واحد هويت من السلم بسقطة مأساوية إثر نزولي مسرعة لاهثة إلى الأسفل كنت حينها فرحة بعودة أبي الغالي من سفره الأخير بعد أن كنت قلقة جدا لظروف سفره المفاجئ ولوحده دون أن يأخذني معه على حسب عادته..
ربما لأني كنت أرتاب حينها من طرق سفرنا الداخلي بعد أن أصبحت أكثر وحشة من مغارات لصوص الصحراء ..وأشد خطرا من شق كهف مظلم.
سقوطي وصمت لحظات .. فبكائي المرير كطفلة صغيرة ثم مشفى وتداوي فرجوعي إلى البيت حزينة غاضبة على نفسي فنومي العميق هذا ..
في حياتي كلها لم أذق طعم هزيمة مرض شديد ولا حزن مرير إلا مرتين ..
كان كسرا في بدايات طفولتي الأولى في قدمي وجراحا في يدي في مكان موحش ومهجور ومن على شجرة ( توكي أحمر) *عجوز لأفرعها طرق وجسور عديدة في بيت مجاور لبيت جدي ..
لكن مهلا .......
فشتان ما بين البيتين .. كان بيت جدي كحدائق تجاور القمر في منطقة هادئة نسبيا يطلق عليها أسم ( الوزيرية ) أصغر بيوتها ب1000 م² مساحة بفناء واسع وأشجار عالية تتوزع على جانبي الطريق المؤدي لمدخل البيت ترحب على استحياء بزوارها .. تطرز الشمس سمائها وتغزل من حرير جدائلها الذهبية قصص الصباح ويعانق ألليلك مساؤها تحت هالة قمر مزدهي بأحلام من غشي النعاس عينهم ..
تتهادى أشجار نخيلها كغجرية ملول تحب مللها مرة و تشتاق.. لهسهسات أساورها الفضية مرة أخرى
كان الزقاق جميلا..كقطعة فردوس نائم في أعالي سماء
حتى عصافيره بمختلف الأنواع والأشكال وحتى الألوان تزقزق من بدايات الفجر لنهايات مغيب أصيل الشمس ...
كانت أمي تأخذني لبيت جدي في فترات ليست بالمتباعدة وكنت أجلس في مقعد سيارة أبي سعيدة جذلى بزيارتي له..
ولمحبتي الشديدة في البقاء عند جنة جدي تلك ولعدم حصولي على صديقة بسني في الحي الذي أسكنه كنت أهمس في أذنه دائما أن يطلب من أمي البقاء في جنته ليوافق هو بسعادة غامرة في الحال ..
فقد كان كما تعلقت صورته في ذاكرتي رجلا تقياً .. نقيا ً يفترش الضوء وجهه وتغمر محياه بسمة هادئة ..
أما أمي فقد كانت تتردد دائما .. ربما لأنها كانت تخاف والدي الذي كان لا يقبل ببقائي هناك حرصا منه على تربيتي الخالصة على يديه ..
ولأنه كان يكره أفكار جدي المتصوف والمتطرف حسب رأيه ..كان يخشى أن أتعلم أفكاره ومنطقه وحتى لغته وهذا ما حصل لي بالذات فكنت نسخة عن جدي بعقلي ومعتقداتي وروحي وثقافتي صورة طبق الأصل ..
عدا الصبر
فنشأت لا أعرف صبرا على شيء أبدا .
وكانت كيمياء حقيقية قد توطدت بيني وبين ذلك الشيخ السبعيني الهادئ ..
لما لا ؟ وأنا غرسا صغيرا له ..
نمت بداخلي مشاعر لا توصف له،وأصبح جدي صديقي الاستثنائي ،برقته وشفافية كلماته العذبة ..وقصصه المخملية الرائعة التي تأخذني لعالم الجنيات الساحرة وخيوط الأحلام الملونة برائحة الطفولة .
وتعرفت هناك على بنت كانت تكبرني بعامين كان أسمها (عالية) تأتي لتلعب معي في الحديقة الخلفية للبيت تسكن في بيت يقابل بيت جدي ،واتذكرها رقيقة ، وساذجة لا تعرف غير اللعب والثرثرة .. في البداية كنت أقضي نصف نهاري الطويل معها تتعالى أصواتنا وكركراتنا مع الغيم ،وقبل المغيب أذهب لجدي ليقرأ لي بعض من قصصه الرائعة ويعلمني الكتابة والقراءة.
بينما هي كانت في الصف الثاني وكانت لا تهوى المعرفة والعلم قال لي جدي عنها لا فائدة ترجى منها هي لا تصلح إلا لللعب ولن تتعلمي منها شيئا أبدا .
وكان أخوها الصغير بعمري ( غازي ) طفل لم أحبه على الإطلاق ولم يوده قلبي منذ لحظات تعارفنا الأولى ..
ولد مشاغب ، بغيض بوقاحة لم أعهدها في أحد من قبل .
كان يتكلم بسرعة ولا يمشي على الأرض أبدا يصعد على الحائط تارة وينط على الأرض ويعدو كحصان جامح تارة أخرى ..
يتسلق الأشجار مثل طرزان .. بل كان جدي يسميه مازحا (شيتا )ونصحني أن أبتعد عنه قال لي انك تعظميه عندما تسميه طرزان ..
وقد أظهر لي كرها منذ البداية وكان يقول عني إنني ابنة التركي البغيض المغرورة والمدللة .
دائم الحيلة ..عفريت صغير له منطق في الكذب ومذهب في النفاق يدير رؤوس كل الذين حوله ..
كانت أمه التي تشبه ابنتها عالية صديقتي تلك إمرأة طيبة جداً ..
تصدق كل ما يقوله من أكاذيب وتهويل للأمور وتزييف للحقائق ،كنت أستغرب وأنا أرى تعابير التصديق في وجهها الحنون الطيب وهو يحكي لها عن كل ما يحصل له في يومه .
لأكتشفت بعدها إن سر هذا التصديق والموافقة على كل ما يطلبه أنه الولد الوحيد لديها لأربعة بنات .
فكان السيد المطاع يأمر بأي شيء ليلبي الجميع أوامره . فعلمت أنه أفسد لكثرة تدليلهم له ..
وكانت لا تأتي فرصة نلعب فيها معا إلا تطاول علي وعلى جدي وعندما أنهره بالكلام يسارع ويشد ظفائر شعري بقوة لتنهمر دموعي بغزارة ..
وأصرخ أنادي أمه ليدعي إنني كاذبة وأنه لم يمس شعرة من رأسي وإني طلبت منه الذهاب ( لبيت فاطمة المهجور ) ولم يوافق ..
وكان بيت فاطمة المهجور هذا منزل إمرأة رائعة الجمال ماتت وهي عروس صغيرة في ليلة زفافها كما قد روت لي أم عالية القصة ....
أجبرت فاطمة على الزواج برجل عجوز من أغنياء المدينة، له أملاك لا تعد ولا تحصى رآها مرة مع أمها البائعة المتجولة فسلبته صمته وفتوره الدائم ،وطلبها للزواج وكتب مهرها هذا البيت الذي يجاور بيت جدي ليغريها لكنها على ما يبدو فضلت الموت على الأموال ..
ولينطوي أكثر على نفسه وليشتد عليه الحزن والوجوم لفقدها وكان قد سافر إلى لندن ليغيب بها إلى الأبد وليظل البيت على حاله ..
مظلم ، موحش في الليل وقديم جدا ..لا يسكنه أحد إلا رجل متوسط العمر وأمه العجوز المسنة الذين حلوا به قبل سنوات عديدة ليحرسوا المكان .
وكان البيت ذا سياج عالٍ جدا ،كثيف الأشجار والأدغال .. مستواها يصل لأعلى السياج وسور الحديقـــــــة الكبيـــــــر تنمو بداخل سوره شجرة ( توكي أحمر) غريبة وكبيرة الحجم بشكل مخيف ومتشعب كنت أظن حينها أنها شجرة إلى ما لا نهاية ..
حتى أن نصف جذعها قد خرج من بطن السور إلى خارج المنزل قطرها كبير يصل إلى متر تقريبا بتحدبات وتقعرات غريبة أسفلها يابس وأعلاها أخضر تسكنه الطيور ..
في عملية تضاد تدهش الأبصار وتأخذ بالألباب تتوالد فيها طرق وجسور كما كان يقول غازي يستطيع الرائي أن يشاهد من أعلاها كل (بغداد )بحسب روايته ..
وأغراني كلامه وتمنيت وبدأت أفكر كل ليلة في صعود شجرة التوكي هذه ومشاهدة بغداد تلك وكنت أظنها إمرأة .. بل أني كنت متيقنة تماما إنها فاطمة تلك الحسناء الرائعة في ثياب بيضاء حريرية في روعة ربيع قادم وأزهار حدائق جدي وقصصه المخملية ما قبل النوم.
وكان بي حنين غريب يتملكني لتلك الفتاة التي أسمها فاطمة لم أعرف سره ولم أسبر غوره أبدا ..
كان خيالي يسرح بي كل ليلة إلى تلك الشجرة أحلم بالصعود إليها ومشاهدة الفردوس المفقود في مخيلتي
ورحت أسأل وأبحث كل يوم عن غازي رغم كرهي الشديد له فقط لأشاهد وأراقب عملية الصعود إلى شجرة التوكي
ومعرفة طرقها وممرات الدخول لبيت فاطمة المهجور كنزي الجديد.. بعيدا عن أعين الحارس ومزاجه المتعكر دائما ووجهه الذي لا أذكر ملامحه لخوفي ورعبي
وأنا أسمع صوته المزمجر متوعدا لكل من يقترب بالويل والعقاب ..
كانت أمنيتي حينها رؤية فاطمة وصار حلمي الوحيد الذي أخفيته سرا حتى عن جدي
توسلت بغازي لأول مرة وطلبت منه أن يأخذني معه في رحلته اليومية فوافق بعد ممانعة
وأتفقنا على صعود الشجرة معا قال لي: في الغد الباكر ،وطلبت منه أن يفكر لي بحيلة تمنعني من الخروج مع جدي لبستانه
وأعطاني واحدة مجانا فقد كان يمتهن الحيل والأكاذيب، كانت عينيه تلمع إثارة وهو يقص على مسامعي الخطة ..
وفي يوم الاتفاق صباحا خرج جدي لبستانه وحيدا بعد أن أدعيت المرض وعدم قدرتي على المشي
فأستغرب لذلك وأراد هو الأخر أن يبقى معي إلا إنني أقنعته بأنني سأكون بخير وسأتعافى .
وأستطعت بذلك أن أجعله يخرج من دوني ..
كانت لحظة خروجه كلحظة مراسم وأفراح العيد وقتها ..
أخيرا سأحقق أمنية الصعود لشجرة التوكي وأشاهد بغداد أي فاطمة ..
ولطالما هزني الشوق لمشاهدة وجهها الملائكي الذي رسمته مخيلتي لها..
جاء غازي حسب الاتفاق وبدأنا بصعود الشجرة كانت عالية جدا وخشنة الملمس لكنه بخطواته الرشيقة كقط بري كان قد وضع إشارات لأماكن الصعود الرئيسة ..
وصعدت معه برهبة شديدة كان يرتفع بسرعة أرعبتني وكنت كلما أصبح أعلى أشعر بالخفة والخوف معا ..
لم أشاهد إلا البيت بأسطحه وكانت الشجرة قد أرسلت فروعها القوية للجهة الغربية منه وفيه بيت الحارس
مرت عيوني على خرائب وأحجار وأدغال صفراء وخواء بارد بدأ يلفح مخيلتي كان لا أثر للحياة في أية جهة منها
بقيت أمرر عيني من الأعلى إلى الأسفل فجأة لمحت أمرآة بلباس أسود وشعر أبيض كانت تحت الشجرة وكانت قد انتبهت لوجودي في أعلى الشجرة
فصرخت هي بصوتها العالي وصرخت أنا معها يــــــــــــــــــــــــ ـــا الله .....
أهي فاطمة ...
أيعقل تلك العجوز الشمطاء ؟؟؟
كانت بشعة بشعرها الأبيض وثوبها الرث الأسود وأخاديد وجهها الأصفر .
رأته أولا وبدأ عويلها وصراخها يحفزني لأن يضيع عقلي مع ذبذبات صراخها وبدأ غازي الكاذب الهروب ضاحكا واختفى بلمحة بصر وليختل توازني ولأهوي أنا إلى أرض فاطمة ..
كسرت حينها يدي وقدمي وجرحت وتلطخ وجهي وجسدي في طين تلك الأرض التي طالما حلمت بها مخيلتي .
...................
بقي جدي مدة طويلة مندهشا عندما سمع مني القصة باكية
وعلى إيقاعات غضب والدي من أمي بأن جدي لا يصلح أن تبقى معه طفلة بحجم شقاوتي..
يومها كان قد انتهى عهد السكون والبقاء في بيت جدي
وكان درسا قاسيا .. ما زال طعمه مرا في ذاكرتي
إلا إن خيال فاطمة الرائع ...
مازال يهدهدني ..كلما مر حلما بداخلي .





* في لهجتنا العراقية نسمي التوت الأحمر توكــــــــــــّي

* كتبت هذه القصة منذ سنوات عديدة وقمت نشرها في ملتقى الواحة كما كتبتها في وقتها بأحساسي وأنا طفلة بدون أهتمام لا بالاملاء او بالكتابة الأدبية للقصة إلا إني قد قمت بالتعديل عليها منذ سنة تقريبا وأرجو من يقرأها أبداء رأيه بالنصين الأول والثاني
شاكرة كل من يمر على النص