وَأدُ الحلم
أُماه ...، المعلم قال " يوم الاثنين سفرة ، ستذهب مدرستنا سفرة الأُسبوع القادم " .
عانقتْه "حسنًا يا ولدي"، دفعتْ له أَربعة آلاف إِجرة السيارة، وقد عصرها العوز، لكنّ السفرةَ فرحةُ أحمد .
سارَ فِي الطريق المعاكس بعد عودته من المدرسة ، وصل إِلى بيت عمه ، هرولَ نحو عمّه، قبَّلَ يديه ، مَسَح َالعمُّ رأسَ أَحمد ، وناوله قطعة حلوى ، لكنَّه رفض أخذها ، ومال برأسه جانبًا .
ما بكَ يا أحمد ؟ هل تشاجرتَ مع أَحدٍ ؟
لم يتفوه، ما تريدُ أَنا تحت أَمرك، ورأسه مطأطِئًا بصوتٍ ينطقُه الأدبُ، " أُريد أروح للسفرة" . أَخرج العمّ محفظته وناوله ، ثم أولاد عمّه أعطوه أَيضًا ، عمّته " سأَعمل لك كيكة تعال وخذها يوم الأَحد بعدما ترجع من المدرسة" ، شكرا ، خرج وهو طائر من الفرح ، كفراشة بين نسائم الربيع .
يَعِدُّ أَحمد الأموال " إِنها تكفي ، هذه للمرجوحة ، وهذه للركوب الحصان ، وهذه للسيارات ، يلا هذه المتبقية أُشاهد السينما ثلاثية الأبعاد" .
أُماه ، يا أُماه ، دنا منها ويتمسح بأَطرافِ ثيابها ، " نعم حمودي ما تريد ؟"
أُريدُ حذاءً ، فالسفرةُ عرسنا . أَصبحَ كُلُّ تفكيرِه فِي السفرةِ وأَلعابها ونقودِه .
اقترب الموعد لم تتبقَ سوى ليلتينِ ونهارٍ واحدٍ ، يتقلبُ عَلَى السريرِ، كما تتقلبُ أَحلامُه فِي طوابيرِ الانتظارِ، لكنَّه فِي الأَخير غرقَ فِي النومِ ، فجأةً يرمي فراشَه ، والصراخ والبكاء يخرج دفعةً واحدةً ، فَزَّ مرتعباً ، تقفزُ أُمُّه عَلَى عجل ، " ما بك يا حمودي ؟"
" ماما لِمَ تمنعيني من الذهاب ؟
لِمَ لا يُسمحُ أَن أَركب السيارة ؟ "
أَنت تحلم ، احتضنتْه ، ومسحتْ دموعه ، قبَّلته " لا تخف مجرد حلم هذا" .
" ماما رأيتُ السيارات واقفةً والتلاميذ متجمعون ، والشمسَ تُغطيها غيوم الليلِ، والريح مرتفعة ، وأَنا لم أَقدر الاقتراب منهم أَنت تقفين بوجهي ، لِمَ لا يركبون فِي السيارات !! "
أهدأ ، ما هذا إِلا حلم ، نُم يا عزيزي، الليلة أَحد ، وغدا المدرسة صباحا ، عليك النوم ، اِبعد عندك الوساوس .
خرج أَحمد إِلى المدرسة مع أَصدقائه ، حينَ رأى باب المدرسة رجع راكِضًا نحو البيت ، يطرقُ الباب عَلَى عجلٍ ، أَحمد ما هناك ؟ ألم تذهب إِلى المدرسةِ !
" نعم لكنّي رجعتُ أُذكرُك ، أَن تشتري لي حذاءً فغدا السفرة " .
رفعتْه إِلى صدرِها، قَبَّلَتْه بِحنانِها " تدلل حمودي " .
يبتسمُ ... ويقول غدا سفرتنا .
قبل أَن يدقَّ الجرسُ مُعلنا نهاية الوجبة الأولى من المدرسة ، وَفِي تمام الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق صباحًا ، اهتزّت الأَرضُ من تحتِ أَقدامِ التلاميذ ، فُتِحت الأبواب ، وَتساقطَ رُعبًا زجاجُ النوافذ ، الدوي أَيقظ صراخ الأطفال .. يندفعُ أَحمدُ من بين التلاميذ ، ويفلتُ من قبضة المدرسة، فقد أَمر المدير بإِغلاق كُلّ الأبواب تحرسا من انفجار آخر .
يركض لكن لا يدري بِأَيِّ اتجاه، أَرعبَه الصوتُ، فها هو يبحثُ عن أُمِّه لِتُشعرَه بِالأَمانِ، مشهدٌ مُوحش، الدماء تصبغ الشارع ، جثث ملقاة هنا وهناك ، الأَشلاءُ متناثرة فِي كُلّ الأَرجاء ، دخانٌ يتعالى ، صياح وصراخ يدوي ، وأَنين ونياح ، الشمسُ تأكلُها سُحبٌ داكنةٌ، شردَ منه الفكر ، لا يدري أَينَ هو ، راح يتخطف النظر بينَ الجثث ، يتفطرُ فؤادُه اليتيمُ ، الشباب يجمعونَ القتلى فِي سيارات الحمل لنقلها للمستوصف القريب .
يرى جثةَ امرأةٍ ما تزالُ فِيهَا حركةٌ ، استل من بينَهم، يقترب منها ، وقد أَخرجتْ يدها جانبا وَكَأَنَّهَا تلوّح بشيءٍ، يعبر نحو السيارة خفيةً ، ويدقق فِي تلك الجثة المغطاة بالعباءة السوداء ، وهو يقتربُ منها عرف أَنّ فِي داخلِ الكيس حذاءً، دنا منها أَكثر عرف أَنَّها أُمُّه وقد غابت عنها نبضات الحياةِ ، فِي رمقها الأَخير ، يرفعُ عن وجهها العباءة ، تبصره وعيناها مغرورقتانِ بالرحيل ، فتومئُ له بعينها إِلى يدها الميتة بِأَنَّها قد اشترت له الحذاء .
منتظر السوادي - البصرة، 17 / 3 / 2013