الحكاية الثانية



هارون الرشيد




حفظ الله الخليفة.....
فهو عندما ينام تغفو الأرض وتسهر السماوات كالثكلى... حفظ الله أحلامه من البوار ، لأنها قانون الدنيا والدين
لكن هارون الرشيد – هذا المساء الغريب – استيقظ مذعورا
قبضت على عنقه الأيدي السوداء وجذبته من ثنايا فراشه الحريري الدافئ... أحاطته وجوه الخصيان والعبيد من كل جانب حملوه كالمتاع القديم ، حاول التملص، زعق بصوته السلطاني
- حكمت عليكم بالإعدام ...
لكن من ذا يهتم بالإنصات إليه، القوة بلا مبالاة فوق بلاط العرش، بهره الضوء الساطع الذي يغمر المكان....لولا بقية العتمة لحسب انه النهار جاء مبكرا، من خلف النوافذ بدت بغداد أيضا ساهرة....قال في حيرة :
- ما هذا... عيد قومي ...؟
لم تعرف بغداد الأعياد أبدا ، قاعة العرش محتشدة ، حملق مفزوعا ، الخصي مرجان ...عبده الوفي – كما يظن – يلبس ثياب الخليفة الرسمية ويجلس فوق العرش ، يقضي في حاجات الناس ، يفصل في قضاياهم ويسوي خلافاتهم
بقية العبيد يلبسون ثياب الأمراء والقواد، عبيد كالفحم يتحركون بنفس الأبهة والعظمة...في حياة هارون الرشيد لم يشاهد قاعة عرشه بهذا النظام والأبهة والأهمية
والناس – رعيته هو – يدخلون طائعين ويخرجون راضين ...تحولت دهشته إلى غضب جارف ، أحس مدى المهانة ، مهانة الرعية وهم خير امة أخرجت للناس ، عندما تحكمها هذه الفئة من العبيد دون أن يفطنوا، زعق بأعلى صوته.
- يا مرجان ، يا خائن ، أنا آمر بإعدامك ، حاول النهوض ، ضربه اثنان من العبيد - الحراس في مؤخرته بعنف – انكفأ ، استدار مرجان في وقار وقال بصوت هادئ عميق :
- دعوه يقترب، لا يكتم احد شكواه...
وقف أمام العرش وهو يرتعد غضبا
- عبد خائن ، هل نسيت نفسك ، أنا هارون الرشيد الهاشمي من سبط الرسول ، ضحك مرجان بانشراح ، ابتسم العبيد – الأمراء ، والعبيد القواد ، استمر الخليفة بالهدير ..
- يا سياف ... يا مسرور ...
ضج الجميع بالضحك ..أشار مرجان للعبيد الحراس
- خذوه ... دعوا وجهه الكريه يرى مملكته الهزيلة مرة أخرى، وجد الخليفة نفسه محمولا بلا حول ولا قوة...مضوا وهو يزعق
- غدا يعود الجيش من بلاد السند ... غدا يعود
ركضوا به في الممرات الموحشة ، شاهد غرف المستشارين والوزراء مغلقة ، شاهد العناكب فوق خوذات الحرس السلطاني ، اشتم رائحة الموت في كل ركن ، صرخ بائسا ساعدوني... انجدوني ، والعبيد الحراس يركضون ضاحكين ... قصر بارد كالعراء – والعبد رئيس الحرس .. يهتف
- هيا إلى القبو
يسعون وراء الخمر بلاشك – قال الخليفة - اعتاد أن ينزل بنفسه ليختار أجود الأنواع المعتقة..لكن الدرج أطول من المعتاد ...هدؤوا سرعتهم ، تأمل ما حوله نفس القبو القديم ولكن ملامحه تغيرت تماما...كانوا في الممر ، قال :
- هنا يوجد البراندي
لفحته نار مشتعلة، شاهد الأسياخ المحماة، تطلع في فزع، أجساد عارية مصلوبة وآثار الكي لازال الدخان يتصاعد منها مختلطا برائحة اللحم المحترق
قال العبد – رئيس الحرس :
- هل تعرفهم ..؟..
كان مذهولا تقريبا
- هذا جدي المنصور ، وعمي الجعفر ، وجدنا الأكبر ، وهذا وهذا ، مضوا مسرعين ، كان لازال يتمتم كنت أظنهم ماتوا ، في الجنة على الأقل ... وصلوا الممر الثاني ، تمتم بنفس الهدوء الذاهل..
- هنا كان يوجد الويسكي
والعبد رئيس الحرس لا يريد أن يرحمه
- هل تعرفهم ؟
هياكل ممصوصة فوق صلبان من خشب الجميز ، وماء مجمدة ،رؤوس مدلاة ...
- هم قوادي وخيرة فرساني الذين فتحوا العالم ، وجاؤا بالجزية والغنائم ،أسرعوا نحو الممر الثالث ، بدأ يبكي بهستيرية متواصلة
- هنا النبيذ والفودكا
الجواري والوصيفات، أجمل نساء الأرض وأشدهن سحرا ودلالا، جثث شاحبة وتوابيت متراصة
- هنا الجن والروم
الندماء الشعراء ، فقهاء الدين ، شيوخ المذاهب ، اخلص الخلصاء ، والعبيد الحراس يسرعون سراديب بلا نهاية ، والبكاء انقلب إلى صراخ متشنج
- عودوا بي ...عودا..ليس هذا عالمي ، ليسوا ناسي ...
كان االبرامكة يتألمون ، وأبو مسلم يخوض في الدماء والعباسة تهيل التراب فوق رأسها ، اشرف البطون والشيوخ يلقون في القاذورات
المومسات يرقصن فوق تكايا الأمراء والضفادع تخرج من فم الموصلي ، والخصيان يسودون كل شئ في ممرات الموت الجديدة وطعنة أكثر حدة ... والخليفة يبكي ..يهدد الحراس ويتوسل ... يغني ويسب بغداد والمملكة ... ولده المأمون.. وزبيدة الهاشمية والزمن الغادر ... وعندما ألقوه على الأرض أخيرا ظل يغني.. يتفاخر بحركات غريبة... ابتعدوا عني ... ابتعدوا عنه قال العبد رئيس الحرس:
- يبدو انه قد جن فعلا..
ولكن هل جن الخليفة حقا؟
كلا حفظ الله الخليفة ... قالوا انه جن
ماذا يبقى للسدنة والكهنة والسماسرة والنخاسين وتجار الحرب
كلا حفظ الله الخليفة .... حفظ الله الخليفة.