رصيف الأرواح

انكشاط الأرجل على حجارة المقابر، جعل حارس المقبرة ينتفض ويقشعر بدنه، لمن هذه الخطوات الثقيلة؟ تمتم فى سره..
انتظر تأقلم عينيه مع العتمة، الأموات الجدد لا يندمجون مع الأموات القدامى، مازالوا متعلقين بدنياهم، كذلك كان يعتقد عبد الصمد حارس المقابر، المهنة التي ورثها عن أب وجد، يجيدها يستقبل الجثامين دون تعاطف، كأنه يحضر مأتما لايعنيه فى شئ.
كان الليل مدلهما، والسماء مكفهرة مخططة ببرق عنيد يبرق بقوة تخطف الأبصار ثم يتلاشى،هزيم الرعد يرج الأرض بشدة. لأو ل مرة ينتاب عبد الصمد هذا الرعب، سمع صراخ استغاثة يثقب ضجيج الليل المضطرب، حمل قنديله وتدحرج نحو المقبرة الأخيرة، ليرى الجسد الذى رقد عند سقوط الشمس فى مستقرها وليتلو عليه قوانين الرقود الأبدي،كان ضوء الشعلة يترنح ثم ينطفئ، فيزداد وجيب قلبه، يبسمل ويقرأ ماتجود به الذاكرة فى مثل هذه المواقف، ولكنه نسي ماحفظه:
ــ مالهذا الميت لا يستقر فى مرقده الأبدي.. !؟
وساوس دواخله غير المطمئنة تشوش واقعه. مازلت الضوضاء المتلاحمة، من صراخ وخطوات ثقيلة تدوّم فى المقابر، وعبد الصمد متكورا.. يردد فى همسه :
ــ ماذا يقع لهؤلاء الموتي؟! أقامت قيامتهم!
أدركته سنة من النوم ربما ثوان أو ساعة،لايدري لقد أضاع الزمن، أصاخ لبرهة.. هناك اهتزازات حناجر حزينة تشبه الأنين، تنبعث من جميع أركان المقبرة، وشواهد القبور تلمع مع كل وميض، شاهدة على مايحدث ولكنها شواهد صامته..
تسللت أشعة الشمس بعد أن إنكمشت الغيوم، فأيقظته، هرول مسرعا ليكشف سر مخاوفة التي انتابته لأول مرة، وجد قبرا جديدا فى الجهة القصية من المقابر، وقد كان سطحه مترعا بدماء لم تغسلها أمطار ليلة الأمس..وبدل الشاهد وضع سيف يبرق نصله تحت وهج الأشعة ، شعر بالحزن لأول ميت وهمس:
ــ قتلوه..كان يصرخ مقاوما أبديته؟ ليتني حضرت لأمنعهم ..
طرد الفكرة مسرعا من مخيلته، ونبذ هذا التعاطف الذى اعتراه..تمتم:
ــ لقد تم أجله ماذا أنا فاعل له..!
رجال الشرطة يذرعون أرض المقابر جيئة وذهابا، ينتظرون نبش الجثة المغدورة.
عبد الصمد يراقب مقهورا، لم يقم بواجبه فى الحراسة،فأدى إلى موت ضحية قضت مضجعه ، وأزعجت الموتي فى مراقدهم بصراخها، كان يتعايش معهم كالأحياء، ويجلس قرب كل قبر جديد يتلو عليه تعاويذ رحلة الخلود..كان هذا عالمه. اعتاد رؤية الأشباح الليلية وهمسها ووقع خطواتها الخفيفة وتوترها،لايخشاهم يظن أن الموتى يزورون بعضهم، هم أهل هناك الجد والأب والخال وأبن العم يرقدون وتكتمل قناعاته وينجلي الخوف. الرعب الذى هد كيانه ليلة الأمس، جعله لايثق فى الموتى ولا أشباحهم، فقد أصبحت خطواتهم ثقيلة، وضجيجهم يثير مخاوفه، ولكنه ناقم على الشرطة يهمس محدثا نفسه التي اعتاد مخاطبتها:
ــ لايأتون إلأ بعد سفك الدماء..ماذا لوطافت دوريتهم ليلا!؟
أوشك أن يقول شيئا للشرطي!ثم ترنح وسقط مغشيا عليه، عندما نُبش القبر ووجد خاليا !نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي