في مجتمعي تعلم كل الناس..كلهم عرفوا القراءة وبعض الكتابة؛ويشكرون دوما دولتهم التي جعلت التعليم إجبارياحتى سن السابعة عشر..وقد نالوا قسطا من التربية ؛أتذكر منهاعبارة متداولة ؛استقرت في شعورهم الباطن؛وراح صداها يتردد دوما في سلوكاتهم..
كانت كرة القدم هي الثقافة الغالبة السائدة ..وكنت أسمع وأنا صغير؛تلك الصرخة المدويةمن مدرب الفريق؛حينما يتجاوزلاعب أحد عناصرفريقه:
ـ قدك قده؛يفوتك بصبع اقطعه له.
كان تحريضا يرفع معنويات الدفاع؛فلا يسمحون لللاعب بالمرور ..بكل الوسائل الرياضية الممكنة..
إلا أني تخلفت عن الركب؛وأخذت طريقاآخر.أحتاج يا سادتي إلى من يعبئني كما النقال..تعبأ فيه النقود..
من يا سادتي يعبئني لأصير جهاز رقمي متطور من آخر طراز..جهاز موجه..متحكم في توجيهه..
مازلت أتذكر حادثة الأسبوع الماضي؛ستسجل حضورها الدائم في ذاكرتي ..كالوشم في ظاهر اليد..كلما عبرت شارعا؛وحضرت دواعي الذكرى..
جلست مع جماعتي نتنكت في المقهى ؛في طاولة على رصيف الشارع؛نضحك ونمرح..الكل منبسط..
فجأة توقفت سيارةمن نوع بيجو407.آخر طراز ..لون لامع غير معهود..رمادية الزجاج..كل الأنظار شدت إليها..كل الرؤوس أشيحت عني إليها.مقهى كاملة سادها الصمت إلا الموسيقى الصاخبةظلت تراوح مكانها..
ودون سابق إنذار؛فتح الباب شاب في مقتبل العمر؛ثم أغلقه الكترونيا..بدلة أنيقة ؛على جبينه نظارتين سوداويتين..بادره البعض بالتحية ..وقف آخرون احتراما ..ردها ثم اضافها إلى آخرين.وجاء النادل مهرولا..
ـ ابعث قهوة مركزة؛واحسب كل من على الطاولات من قهاوي؛وشاي؛؛ومشروبات ؛ومرطبات..
وسمعه الجميع ..وفرح الجميع؛وكان اشدهم فرحا زميلي الذي كان دوره اليوم في تقيء ثمن الطلبات..نعم يتقيأهذه الدنانير..فبعض سكان بلدتي أفتى بتحريم المقهى لأنها مضيعة للوقت..فهي عندهم من اللهو..ونحن مجتمع جاد أو ربماـ قل ـ يخاف أن يجلس فينضاف إليه المتطفلون فيضطر إلى دفع الثمن..عفوا؛ يتقيأ الثمن..
وفجأة..اختصرت كل مواضيع العالم التي كانت تدورفي المقامات..في رموضوع الساعة ..طارق..ليس ابن زياد..فهو لاحدث؟؟بل الذي طرق المقهى ودفع الثمن..
وسألت من بجانبي عن فصيلته..
ـ إنه ابن السي علي؛ابوه فلاح يملك هكتارات..في ظرف سنتين بنى قصرا من طابقين..لكل ابن من أبنائه الثمانية بيت مجهز بكل الوسائل..ضاعت منتوجاته الزراعية بسبب دُوِن في كل الوثائق الإدارية الرسمية يلحق بالجفاف..والجفاف ثوب قشيب عندنا متجدد يرتديه كل فلاح دخل في عطلة مؤبدة عن الإنتاج..وقدم له صندوق الكوارث الطبيعية تعويضا باهراتشجيعا له ..عسى أن يستأنف..
الأموال عندنا لابد أن تجد طريقها للصرف والإنفاق..لايجوز تكديسها ..السلطة الفعلية تجتهد في إصدار القوانين الرسمية ..سلطة الخفاء..لاتعدم وسيلة في حسن توجيههاإلى ذويها..الذين يستحقونها ..الكل بالقانون..
ثم أضاف :
ـ هذه المبروكة اشتراها اليوم فقط..بالأمس وجدته راجلا..
التفت إلى نفسي ودهشت أن الأسرة الواحدة صارت بين امسية وضحاها تسعة أسر في سقف واحد..وواصلت :
ـ ربما استعارها أو اكتراها..
ـ لا؛أبوه يملك المال وصار ذا جاه في المدينة..أعترف به رجلا ؛وفر أسباب الرفاهية لنفسه لأبنائه.
وبادرت أصحابي بعد أن رأيت فيهم دواعي الاستيلاب في وجوههم ؛والانبهار يملأ وجدانهم:
ـ وبعد ..هذه قضية مال فقط.
ـ يا متخلف ؛أكيد..كل الفتيات ينظرن إليه الآن..أنت إذا تقدمت لخطبةواحدة؛ فقط قد تشد يدها بك ..ريثما يظهر صاحب المال الممدود..الفتاة التي تبحث عنها؛ انتهت مدة صلاحيتها..
ـ أنت تقذف المؤمنات ؛ القانتات ؛ المحصنات ..لاتخلو الأمة من الخير ..أبدا ..أبدا..
ـ قيل إنه يستعد لخوض غمار الانتخابات المحلية ..أصبحت لديه شعبية..
وتدخل آخرانتبه إلى حديثنا :
ـ يصلح أن يكون رئيس بلدية ..تناسبه.. صار من أهل الفخامة ..
ـ وهل تظنني غبي ؛ وأصدق أن هذه صدقة ..ساتكفل بثمن الطاولة ..الآن فهمت..ثمن بمقابل ..والمقابل ذمتك..هو ينظر إليك مجردصوت عبور..وصاحب المقهى ينظر إليك مجرد قهوة ..وفي كل مكان ..قيمتك تترجمها مشترياتك..وفي مظهرك..
وحاولت أن أغير الموضوع تجنبا للخلاف والخصومة مع البقية المتبقية ممن يتحملون جنوني ؛ ويجالسونني..او قل يجالسون جيبي.
ـ انظروا إلى هذا الشاب العابر لقد طبع الأسبوع الماضي ديوان شعر..وقرأته ..مستوى جيد..مفخرة للبلدة.سيكون له شان مستقبلا..
ـ ورد علي جليسي بسخرية :
تقول ديوان شعر..ما عساه ينفعنا..ايه ..فقط الأمين .أعرفه.عادي..لاحدث..هذا مجرد مجنون..
ولم أتملك اعصابي؛ووقفت صارخا صراخا اقشعرت له الأبدان..استوقف المقهى والمارة والشارع معا..
ـ كل فعل جميل قدمه المثقفون في هذه البلدة جعلتموه لاحدث..حتى بدات أصدق أنه إذاسمعتم أن أحد أبنائكم حرر القدس ..ستجعلونه ..لاحدث..
حتى صرتم لاحدث..



رد مع اقتباس




