بيت الدم

البيت يتقيأ أحزانه منذ رحيلهم، منذ حدوث أكبر مصيبة في تلك السنة، يصلب همومه على رياح المجهول الذي عصف بكل شيء دون سابق إنذار.

الصالة أنيقة ومرتبة باحتراف امرأة تهتم بشؤون بيتها وعائلتها، رتبت فيها الأشياء بلمسة جمال رائعة، يزينها على اتساعها طقم كنبات جميل، وفي زاويتها شجرة تتدلى منها قطوف خضراء، وتلفاز يشكو همه للصغار الذين ينظرون إليه بشراهة، وسورة معوذات علقت على الجدار، يقابلها لوحة بداخلها ديك مذبوح وقطرات دم بشكل ثلاث علامات استفهام تنتهي بعلامة تعجب!
قرر أبو رامي أن يضحي في بيته هذا العام، أخبر عائلته قبل قدوم العيد بعشرة أيام، أراد أن يُطّبق هذه السُنة بنفسه ويعلم أبناءه شعيرة عظيمة ويريق الدماء أمامهم، سرد لهم قصة نبي الله إسماعيل، وكيف فداه ربه بذبح عظيم، تشوق الأطفال كثيرا لقدوم العيد وما سيفعله والدهم من إراقة الدماء تقربا لله سبحانه وتعالى.

تقف الزوجة في الصالون لحظات طويلة، تتأمل صورة الديك، تنحدر من رقبته علامات استفهام، السؤال يطرق جدار العقل، العقل لا يستوعب اللوحة، الفضول يترنح بداخلها لمعرفة سر اللوحة، تتقزز منها وتنفر من أمامها، أفاقت من شرودها على صراخ الطفل، رغوة الصابون تملأ حوض ( البانيو ).

نسي أهل الحي تلك الحادثة، إلاّ "أبو محمود" الذي ظل يذكرها كلما هبت الذكريات وأشعلت بعينيه صور الماضي وآلامه، يذكرها دائما للأطفال كحكايات الجدات، وسرعان ما تتفلت من مقلتيه دموع حارة سرعان ما يمسحها بطرف ردائه الحزين.

اصطحب أبو رامي أولاده ليشاركوه شراء الأضحية، يرسم على وجوههم فرحة العيد، أثار ضجيج السوق وغثاء الأغنام الدهشة والفضول لديهم، بعد الانتهاء من النظر إلى الأضاحي بأنواعها ومن زريبة إلى أخرى اختار كبشا أقرنا يزينه صوف كثيف.
يدرس رامي في مدرسة خاصة، في الصف السادس، يصغره أخوه وليد بسنتين، حاد المزاج، يميل إلى العنف واللامبالاة في إيذاء الآخرين، يلكز الأطفال بيده أو بوضع طرف قدمه أمامهم ليوقعهم، وكثيرا ما يستفز وليد حتى تحمر وجنتاه وتذرف دموعه، وسرعان ما تكتشف أمه سبب ذلك، فيهرع لإرضاء أخيه بوضع قطعة حلوى في جيبه فتعود الألفة بينهما.

يتحلق الأطفال حول أبي محمود، تختلط الحكايات في ذاكرته، يسرد لهم قصة الشاطر حسن ومغامراته الرائعة، ذرفت من عينيه دمعتان ساخنتان، تلذذ بطعمهما المالح، شعر بالضيق، أخذ نفسا عميقا ثم أردف قائلا ...

كانت سنة جميلة والصيف في بدايته، سنة مليئة بالفرح، الربيع زيّن الأرض، في مساء ليلة صيفية جاءني أبو رامي، رأيت القلق في عينيه، وكآبة تغطي وجهه، جلس بقربي وبدأ يسرد حلم زوجته الذي أفزعه.

لم أنم ليلتي والأفكار تنهشني مثل كلاب مسعورة، هل لك أن تنبئني بما رأت؟ هل تفسر لي هذا الحلم الغريب؟ سأزيح هذا الهم عن عاتقي وألقيه عليك لتشاركني ما أنا فيه، أفقت من نومي على صراخها، جسدها يرتعش والعرق أخذ منها كل مأخذ، تهذي بأنفاس متقطعة، لم أتبين ما تتحدث به، تلطم وجهها تارة وتصرخ أخرى حتى ظننت أنه أصابها مس، قمت بإيقاظها، بعدما هززتها بقوة، أفاقت وقالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كأن الأمهات يتنبأن بقدوم المصائب، هن يشعرن بذلك، ولا أعلم السبب وراء ذاك الجنون، ناولتها كوبا من الماء، شربت بلهفة غريبة، كأنها صحراء لم تتذوق الماء أبدا، بدأت بسرد حلم شعرتُ بمرارته الذي ذاقته في المنام، رأت حية رقطاء، تنفث السم في ثلاثة أعشاش، وقفت الأم على أعلى غصن، تراقب موت صغارها، وخيل تصهل بحرقة وتهمهم، وفرح يغلفه إطلاق نار وزغاريد نساء، بينما أنا أسير وسط الجموع، حاسر الرأس مهلهل الثياب.
قلت له وأنا أخفي توترا يهتز بداخلي، إنها فرحة العيد يا أبا رامي، سيزورنا بعد رحيل عام، قلتها وأنا أمضغ الحيرة تحت ضروسي، أخفف من وطأة الحلم الذي أرقه، محاولا دفعه عن الشؤم الذي التحفه، مضى وهو يلوك همّا يحاول نسيانه.
الدنيا صغيرة، قالها أبو محمود وهو لا يزال يسرد لهم الحكايا، انفض الأطفال من حوله، ظل في مكانه، يلاعب الحصى ويرسم على الرمل دوائر، يمسحها ويخط كلمات مبعثرة، يستذكر طفولته وكلمات كانوا يرددونها...
بكره العيد وبنعيد... ونذبح بقرة السيد... والسيد ما الو بقرة...
بدأ النشيج يزداد وحشرجة باتت تخنقه.

يعود أبو رامي من عمله محملا بالأكياس، يدير المفتاح في ثقب الباب، متجاوزا سور الحديقة، تدهشه رؤية خيط رفيع من الدم، يسير حتى نهايته، أصابه الذهول، خر مكانه بلا حراك، يقلب صغيره "وليد"، يتحسس رقبته، امتلأت يداه بالدماء، يقابله رامي وفي يده سكين تلمع وعليها أثار دماء، يصرخ الأب من شدة الصدمة، تخرج الأم من الحمام، يركض الطفل بسرعة جنونية نحو المجهول، تتلقفه سيارة تهوي به على الأرض، يسبح في دمه، يقف الأب مذهولا، مدهوشا ويتوه في الغياب، الأم أصابها الجنون، تُقّلب وليدها، تندب حظها، يجتمع كل أهل الحي، بعد لحظات الهذيان والجنون تستفيق لصغيرها، تركض لتجده جثة في الحوض بلا حراك.





خالد يوسف أبو طماعه