.......................منطق الخيال أو خيال المنطق؟ .....................





كانت المقابر كئيبة كعادتها، وكان هناك قبر حديث العهد فيها مازالت تربته رطبة، وقد نثر عليه الكثير من الورود والرياحين، وعلَّق على شاهده عقدٌ تراصت فيه وريقات الفلّ بشكل جميل، فاحت العطور من هذا المزيج الرائع لتمتزج برائحة عطر امرأة متشحة بالسواد تقف أمام شاهد القبر، وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وشخصت بصرها إلى تلك التربة محاولة اختراقها بمخيلتها.
عادت بمخيلتها إلى عشرسنوات مضت،إلى تلك الفترة التي تعرفت فيها على صاحب هذا القبر، كانت هي من بلدة المنطق وهو من بلد الخيال رغم هذا أحبته بل عشقته حتى النخاع، كان يضحكها بدعاباته ويسحرها بكلامه، وكان يحبها بجنون ربما أكثر مما أحبته هي، قاتلا المستحيل لتجمعهما تلك الرابطة المقدسة رابطة الزواج ، حطما معاً الكثير من الحواجز واخترقا الكثير من الصعاب، حتى جاء ذلك اليوم ...

كان ينتظرها في ذلك المطعم كالعادة، وينظر إليها وهي تلوِّح له بيدها أثناء عبورها للطريق متجهة نحوه، رسم ابتسامة حانية على مُحيَّاه وأشار لها وقد اتقدت عيناه بمزيج من الحب والألم، كان يعلم بأن هذه المرة ستكون المواجهة صعبة عليه ولكن يجب أن يقنعها ليخطوا الخطوة الأخيرة للزواج، سحبت الكرسي المقابل له وعلقت حقيبتها الصغيرة على مسند الكرسي الآخر، وشبكت يديها أسفل ذقنها لترسم ابتسامة جذلة وتسأله بمرح: ما الأمر؟حاول الرد عليها بصوت هادئ ولكن خوفه طغى على صوته فبدا متهدجاً ومبحوح : لا شيء اشتقت لك، وأردت أن أناقشك في بعض التفاصيل التي طالما اختلفنا عليها.
قالت له بهدوء وهي تحدق في عينيه : مابها؟
أجابها وقد زادت رجفته حتى كاد أن يسكب كوب الماء الموضوع بجواره: لا شيءفقط أردت أن أحسم أمرها قبل بدء مراسم الزواج، تعلمين مقدار حبي لك أليس كذلك؟
ردت بنفس الهدوء المثير لأعصابه وبلهجة آمرة : أكمل ...
ابتلع ريقه بصعوبة واستطرد كلامه قائلاً: تعلمين بأننا هنا في مدينة الخيال لنا عاداتنا وتقاليدنا ومعتقداتنا الخاصة والتي تختلف عن ما هو عندكم، لذا يجب عليك التقيد والالتزام بها.أرجعت رأسها للخلف وعقدت يديها أمام صدرها قائلة له : قد تنازلت فعلاً ووافقت على التقيد ببعضها، ولن أقدم تنازلات أكثر من ذلك، فأنا امرأة متعلمة لي شخصيتي المستقلة ولن أسمح لك بمحوها.
نظر إليها نظرة استعطاف ورجاء وهو يقول:لست هنا لمحو شخصيتك التي أحببتها، ولكن …
قاطعته صارخة : دعك من هذا فلا أظنك ترغب بخسارتي لأجل ذلك؟
تردد قليلاً قبل أن يكمل : بالتأكيد لا ارغب بخسارتك فلا حياة لي بدونك، ولكني أضعف من الأعراف والتقاليد بل وأعتز بها، فكري قليلاً ستجدين بأني على حق ..
بدأت تتوتر هي الأخرى فهي لا تعلم إلى أين يأخذها بهذا الحوار ولكنها مصممة على رأيها، ولن تسمح له بتغييرها مهما كان حبها له،أجابته وقد باعدت بين يديها لتضعهما على الطاولة : حبيبي لا تسمح لهم بملء رأسك بهذه الترهات، أنا هي أنا، هكذا أحببتني وهكذا سأظل، قدمت لك الكثير من التنازلات، وحاربت لأجلك فعلت لك أكثر مما فعلت أنت لي، وتنازلت عن أشياء كثيرة لأجل سعادتك، ولم أطالبك بالمثل، فلا تجبرني على أكثر من ذلك.
بدأت الدموع تتجمع أسفل محجره وهو يهمس لها: أرجوك حياتي لا تقولي هذا، فما فعلته لي هو لإتمام أمرنا، وليس الأمر مماراة بيننا، بل يجب أن تكون تنازلاتنا هادفة لإنجاح حياتنا معاً، لذا يجب أن توافقي على عادات مجتمعنا.
( لا لن أرضخ له أو أتراجع عن موقفي ) ..................


هذا مادار برأسها وهي تردُّ عليه قائلة : لم لا تفعل أنت ذلك؟، لماذا يجب علي أن أنزح لتقاليد مجتمعك بدلاً من أن تتقبل أنت تقاليد مجتمعي؟، لماذا يجب أن أكون الطرف المتنازل هنا؟
تدحرجت دمعة على خده فسارع بمحوها بأطراف أصابعه قبل أن تنتبه هي لها،ولكنها رأته وشعرت برغبة في أن تجهش بالبكاء، قاومت رغبتها تلك لتبدو أكثر قوة، سارع هو ليأخذ يديها بين راحتيه وهو يخبرها : كيف أتقبل عادات وتقاليد مجتمع لن أعيش فيه، أنت من سيعيش معي في مجتمعي وليس العكس، إن تقبلت أنا تقاليدكم فلن يفعل من حولي ذلك، كيف تتوقعين أن نكمل حياتنا على هذا النحو؟سحبت يديها ولم تمنع هذه المرة دموعها من الانسكاب، نظرت إليه متسائلة : وهل ستتركني لأجل مجتمعك؟ هل تتخيل حياتك بدوني، ألم تتمنى سعادتك معي؟
رد عليها بحزن : وهل سنعيش بعيداً عن مجتمعي، أرجوك فكري بمنطق كيف ستكون حياتنا بعد الزواج ؟، لن نبقى وحيدين دوماً، يجب أن نختلط بمن حاولنا ونجاريهم مادام الأمر لا يتعارض مع ديننا.
لم تستطع الرد عليه اكتفت بأن نزعت خاتمه من إصبعها ووضعته على الطاولة ونهضت مبتعدة وهي تشيح بوجهها عنه،ودموعها تتطاير من على وجهها، حاول الإمساك بيدها ومنعها من المغادرة ولكنها سحبت يدها بخفة وظلت تركض مبتعدة .
ظل ينظر إليها والحزن يفطر قلبه، ويأمل أن تعود له يوماً، ولكن هذا لم يحدث ولم تتكحل عيناه بقسماتها مرة أخرى.
كان يناقشها بالمنطق الذي عهدته في مجتمعها، وهي تطالبه بالتخيل المعهود في مجتمعه ،وهاهو يرقد اليوم أمامها جثة تحت التراب، خسرها بسبب خياله المنطقي وخسرته بسبب منطقهاالخيالي.
على شفاهها ارتسمت ابتسامة ساخرة يقطر الألم من كل طياتها، ودموعها تزداد غزارة لتروي شاهد قبره الذي ترك لها فيه آخر رسالة
((أحببتك حتى مماتي، ولم أجد منطقاً لذلك ))
ابتعدتْ هذه المرة وهي تعلم بأنه لن يمنعها أو يمسك يدها، ابتعدت وقد أدركت بأنها ماتت معه يوم افترقا.
كانت تحاول جاهدة العثور على طريقها وسط دموعها .... تعثرت عدة مرات حتى وصلت أخيراً إلى سيارة سوداء كانت بانتظارها، ودَّعت المقابربنظرة أخيرة قبل أن تنطلق السيارة مبتعدة لتفرقهما مرة أخرى .
...... تمت.


بقلم / محمد أحمد السقاف