خيال المآتة

ذات صباح، تفتحت عينا خيال المآتة على (أنثى خيال مآتة) مزروعة جنبه. بالأسى والفرحة فرك عينيه ليتيقن أنها حقيقة. هتف بأعلى صوته لما تأكد. حرك ذراعه إلى اليمين، فدفعته الريح ليحاذي وجهه وجهها. أمعن النظر في عينيها يزيد من دفقة الحلم التي تولدت من العدم.
كان لها عينان من زجاج تلمعان كوميض حركت داخله قلبا من قش وجعلته ينبض.
تقدم خطوة، وحدق فيها طويلا يتأمل شفتيها الحمراوين، وشعر مسدل أصفر كالذهب.. قال لها بسعادة، وغيمة تمر فوق رأسه في سماء زرقاء:
- كنت أحلم بك في صمت الليل، وضوضاء النهار.. حين يبزغ القمر وحين يغيب.. في ظل الزرع الأخضر، وفي لهيب الشمس.. كنت أفكر فيك منذ أن وضعني الفلاح هنا أعاني الوحدة
فكر كيف بدأت حكايته وقت أن رجع الفلاح غاضبا من الحقل، والشرر يتطاير من عينيه. ذرع البيت ذهابا ومجيئا يفكر ويردد: ضقت بتلك الغربان والعصافير.. لقد أنهوا على المحصول.
أمال بجسده تحت كنبة في صالة البيت، وأخرج حطبتي صفصاف غليظتين. شدّ الحطبة القصيرة على الحطبة الطويلة كصليب، وجعلهما ذراعين. أحكم وثاقهما بحبل من كتان. لف فوق قمة الحطبة الطويلة عمامته البيضاء، وجعلها رأسا. ثبت في العمامة خرزتين زرقاوين كعينين. وضع فوق الرأس طاقية صوف كان يرتديها.
أسرع وأحضر جلبابا من دولابه، وأدخله في الحطبتين، ليكتمل خيال المآتة.. تطلع إليه طويلا، ثم حمله وأسرع به إلى الحقل. حفر وسط الزرع حفرة عميقة وضع فيها طرف الحطبة، ثم أهال عليها التراب.
قال له الفلاح، وهو يحدق في عينيه:
- الآن أنت يا صديقي سيد ذلك الحقل كله.. عليك أنت تطارد الغربان والعصافير.
لم ينس الفلاح قبل أن يتركه أن يقول له:
- لك من هدية إن نجحت!
يبدو أن الفلاح صديقي وفى بوعده لي وجاء بأجمل هدية.
حاول أن يمدّ ساقه ليتقدم خطوة أخرى، فأوشك أن يقع. لملم نفسه بصعوبة، وثبت نفسه مرة أخرى.
كانت على حدود الحقل نخلتان وشجرة تقف فوقها العصافير تتأهب للولوج إلى الحقل في حذر، فضرب خيال المآتة على صدره، فرفرت عاليا مذعورة. واصل حديثه عن نفسه قائلا بفخر واعتزاز:
- أنا السيد هنا.. لا أخشى الريح ولا المطر.. تهابني العصافير ولا تقدر على الاقتراب.. يتعاقب عليّ الليل والنهار وأنا ثابت مكاني كزنهار.
رأى كأن (أنثى خيال المآتة) لا ترد عليه، فهز رأسه ينفض اليأس، وقال لها مشجعا:
- تكلمي معي. لا تخافي..
دندن لها بأغنية شجية، ومد لها يدا تورقت كغصن أخضر. لمح كأن على شفتيها ابتسامة، فاجتاحت صدره دفقة نور هدمت حزنا في مكان معتم.
واصل حديثه معها يحكي لها عن أيام وحدته وبطولاته حتى داهمه ليل بلا قمر. دقق النظر، فخالها في الظلمة كأنها غادرت. رجع يرتب أفكاره وأحلامه حتى لا يغرق في دوامة تطيح ببقايا الأمل.
قال لنفسه يؤنسها:
- سيزفها لي صديقي الفلاح في عربة يجرها حصانان تتقدم موكبا مهيبا.. سأرتدي جلبابا أبيض وعمامة بيضاء.. سأرقص معها ليلا بلا نهاية.
انتظر الصباح ليبرق له ما تولد في عقله من أحلام.
مع أول إطلالة ضوء تزيح العتمة جال ببصره يبحث عنها، فلم تقع عيناه إلا على سنابل القمح الناضجة على مدى البصر. أحس بالقنوط يجتاح النفس الخائرة، وتهدمت داخله ذكريات جميلة، سقط لها دمع من ريش وقش.
بعد قليل جاء الفلاح وبصحبته رجال آخرون يمسكون في أيديهم مناجل تلمع في ضوء الشمس. انكبوا بهمة على الأرض، وحصدوا الزرع.
بعد أن فرغ الفلاح من الحصاد، وقف يشد جسده من التعب، واضعا يديه وراء جنبيه. أبصرت عيناه خيال المآتة يقف وحيدا وسط الفضاء، فقال بنبرة ساخرة حملتها الريح:
- لا فائدة منك الآن!
هرع إليه، واقتلعه من منبته، وحمله فوق ظهره ليرميه بعيدا.
في تلك اللحظة، والتي وجد فيه خيال المآتة نفسه ملقى على ناصية الطريق، ورأى الشماتة في عيون العصافير والغربان فوق الشجرة أيقن أنه لم يكن سوى خيال مآتة.